جنادة ، يأتينا كلّ يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت. ثُمّ قال : ادخلوه عليّ. فجيء بأبي ذر بين قوم يقودونه حتّى وقف بين يديه ، فقال له معاوية : يا عدو الله وعدو رسوله ، تأتينا في كلّ يوم فتصنع ما تصنع! أما إنّي لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك ، ولكنّي أستأذن فيك. فقال أبو ذر : ما أنا بعدو لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ؛ أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسول الله (ص) ودعا عليك مرّات أنْ لا تشبع. فأمر معاوية بحبسه وكتب إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : احمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره. فوجّه به مع مَن سار به الليل والنّهار ، وحمله على شارف ـ أي ناقة صغيرة صعبة ليس عليها إلاّ قتب ـ حتّى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد. ولمّا اُدخل أبو ذر على عثمان ، قال له : أنت الذي فعلت وفعلت؟ فقال أبو ذر : نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك فاستغشّني. قال عثمان : كذبت ، ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها. قال أبو ذر : والله ، ما وجدت لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر. فغضب عثمان وقال : أشيروا عليّ في هذا الشّيخ الكذّاب ، إمّا أنْ أضربه أو أحبسه أو أقتله أو أنفيه من أرض الإسلام؟ فتكلّم علي (ع) ، وكان حاضراً ، فقال : «أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون : وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب». فغضب عثمان. قال : ومنع عثمان النّاس أنْ يُجالسوا أبا ذر ويكلّموه ، فمكث كذلك أياماً ، ثُمّ اُتي به فوقف بين يديه ، فقال عثمان : اخرج عنّا من بلادنا. فقال أبو ذر : ما أبغض إليّ جوارك ، فإلى أين أخرج؟ قال : إلى البادية. قال : أصير بعد الهجرة إعرابياً؟! قال أبو ذر : فأخرج إلى بادية نجد. قال عثمان : بل إلى الشّرق الأبعد ، أقصى فأقصى ، امضِ على وجهك هذا ، فلا تعدون الرّبذة. فخرج إليها. فلمّا حضرته الوفاة ، قال لامرأته أو ابنته : إذبحي شاة من غنمك واصنعيها ، فإذا نضجت فاقعدي على قارعة الطّريق ، فأوّل ركب ترينهم قولي : يا عباد الله الصالحين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله (ص) قد قضى نحبه ولقي ربّه ، فأعينوني فأجنوه (١).
قال محمّد بن علقمة : خرجت في رهط اُريد الحجّ منهم مالك بن الحارث الأشتر حتّى قدمنا الرّبذة ، فإذا امرأة على قارعة الطّريق ، تقول : عباد الله المُسلمين! هذا أبو ذر صاحب رسول الله (ص) قد هلك غريباً ، وليس لي أحد يعينني عليه. قال :
____________________
(١) سورة غافر / ٢٨.