ولنا أنْ نعجب وندهش من تلك الآراء التّي تعبّر عن نفسها بوقار العلم والموضوعية ، وبمنطق حتمية التّأريخ ، لتصور المرحلة على أنّها مرحلة بناء الدّولة وأنّ معاوية كان رجل دولة ، وفي سبيل هذا البناء التزم سياسة واقعية بارعة في مقابل سياسات خيالية اتّبعها خصومه من أصحاب الدّعوة إلى العدل الاجتماعي والكرامة الإنسانيّة.
وكثير من هؤلاء المؤرّخين يرون : أنّ منطق التّطور من الوضع القبلي إلى الدّولة المركزيّة هو الذي يبرّر كلّ ما حدث من جرائمٍ لإنشاء هذه الدّولة ، ومع ذلك فالدّولة لم تُعمّر بعد ذلك إلاّ ستّين عاماً ، ولم تلبث أنْ انهارت انهياراً كاملاً.
كان (صن بات صن) الزّعيم الرّوحي للصين الحديثة يقول عقب كلّ فشل لثورته الوطنية : هذا هو فشلنا الرّابع أو الخامس أو العاشر ... إلى آخر سلسلة الفشل التّي تعرّضت لها الثّورة الصّينية قبل أنْ تنتصر.
والواقع أنّ تأريخ البشرية جميعاً هو سلسلة من الثّورات الفاشلة ؛ حتّى تتحقّق ثورة ناضجة لا تلبث هي الاُخرى أنْ تتجمّد أو تُغتصب لتظهر ثورات اُخرى تُتابع في فشلها حتّى يتحقّق النّصر الحاسم.
والثّورة ليست سابقة لأونها أبداً ؛ فالشّرارة الاُولى هي دائماً الإعلان الحاسم بوجوب نقلة اُخرى ، وهذه النّقلة قد تُنتظر طويلاً حتّى تتحقّق ، ولكن دون أنْ تظهر هذه الشّرارة فإنّ الثّورة لا تولد ، بل تصبح في حكم العدم.
والثّورة ليست مجرّد تغيير تُنشده وتعمل له مجموعة مقهورة لتلقي قهرها وتسترد حقوقها ؛ بل هي أعمق من هذا ، إنّها طريق في سلّم التّطور الأخلاقي للمجموعة البشرية ، وهذا السلّم يبدأ من السّلوك الفردي في أبسط صوره إلى السّلوك الجماعي للاُمّة والإنسانيّة بشكل عام.
وكان الصّراع من أجل توزيع الثّورة هو ذريعة قانون التّطور للوصول إلى مُستوى أخلاقي أعلى للمجموعة البشرية.
وآية ذلك إنّ قادة الثّورات لا تُحرّكهم إلى الثّورة ضغوط الحرمان أو القهر وحدها ، بل قيم إنسانيّة أعلى من القيم السّائدة ؛ بل إنّ هؤلاء القادة غالباً ما يكونون واقعين تحت ضغوط غير مادّية ، بل لعلّهم في الأغلب لا يُعانون من أي