والحسين (ع) من اللحظة الاُولى قد اختار دوره ، أو على الأصح قد اختاره دوره ، فطبيعته ترفض كلّ ما يحدث ، وهي ترفضه لحد الأزمة. إنّ السّيف والإرهاب يُطالبانه بالبيعة ليزيد فلا يُبايع ويأوي إلى مكّة. وفي مكّة يتقاطر حوله النّاس يدعونه إلى الخروج وطلب البيعة ، ولو لم يطلب إليه النّاس ذلك لكان قد خرج أيضاً أو لمات قهراً ، فإلى جانب الذين حضّوه على الخروج كان هناك الذين يحضّونه على ايثار السّلامة ، وكانوا من أخلص النّاصحين له ، ومع ذلك لم يقبل السّلامة.
جاءته الكتب من العراق بأنّه لو وفد عليهم لبايعوه ، فاتّخذ هذه الكتب ذريعة ليلعب دوره المقدور عليه. أرسل ابن عمّه مُسلم بن عقيل إلى أصحاب هذه الكتب يستطلع الأمر ، واستُقبل مُسلم استقبالاً حسناً ، ولم يملك الوالي هُناك أنْ يتصدى له ، بل كلّ ما فعله هو النّصح. فما إنْ علم مُستشارو الخلافة الدّهاة بموقف الوالي حتّى اقترحوا عزله وتعيين عُبيد الله بن زياد بن أبيه مكانه ، فجاء عبيد الله هذا ، وهو النّموذج المُقابل لمُسلم وللثّوار ، رجل السّلطة الذي تحكمه طبيعته أيضاً ليوغل في الإثم إلى الدّرك الأسفل. ونشبت المعركة سجالاً بين الجُبن والشّجاعة ، وبين اللؤم والنّبالة ، فهو يفرّ من وجه الجماهير ويحتمي بالقصر ، ثُمّ يظهر في صورة الجبّار حين تتفرّق الجماهير ، ويخلف العهد ويغري بالمال ويغري بالسّلطة ، ويستعمل سلاح الإرهاب والتخويف حتّى يستطيع أخيراً الظّفر بمُسلم فيقتله قتلة شنعاء ، ويُلقي بجثّته من أعلى القصر.
وتأتي كُتب مُسلم إلى الحسين (ع) بأنّ عشرات الاُلوف ينتظرونه لمبايعته ، ويتحرك الحسين (ع) فيبلغه ما حدث لمسلم ، وبدلاً من أنْ يتراجع مؤثراً السّلامة يُقرّر المُضي إلى العراق ؛ مُحتجّاً لنفسه ولأهله ونفره القليل بأنّه حين يدخل العراق سيلتفّ النّاس حوله ، وكان يعني أنّ وجوده بينهم سيقضي على خوفهم وتخاذلهم ويردّهم إلى آدميتهم ، وهو بذلك يُحدّد دوره ؛ أنّه بعث الرّوح من جديد ليس أكثر.
ويمضي الحسين (ع) وليس معه إلاّ سبعون رجُلاً ونساؤه وأطفاله.
وفي هذه اللحظة يكون الحسين (ع) قد أدرك الموقف كلّه ، فهو يعلم أنّ جيوش عُبيد الله بن زياد قد تعترضه ، بل هي تعترضه قطعاً ، وعندئذٍ تكون النّهاية.
ولكن الحسين (ع) كان يعلم أنّه لا بُدّ من فدية شخصيّة ، فدية تتوهّج بالدّم ، وكان هو الوحيد الذي يملك أنْ يتقدّم كفدية تهزّ الضّمير ـ شبه الميّت ـ في قلب الاُمّة.