استقبل بي وجه ابن الزّبير ، وارفع من صدري ـ وكان قد كُفّ بصرُه ـ. فاستقبل به وجهه ، فحسر عن ذراعيه ، ثمّ قال : يابن الزّبير :
قدْ أنصفَ القارَةَ مَنْ رامَاهَا |
|
إنّا إذا ما فئةً نلقاهَا |
نردُّ اُولاهَا على اُخراهَا |
|
حتّى تصيرَ حَرضاً دَعْواها |
فأمّا العمى ، فإنّ الله تعالى يقول : (فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُور) وأمّا فُتياي في القملة والنّملة ، فإنّ فيهما [حكمين] لا تعلمهما أنت ولا أصحابك ؛ وأمّا قتالنا اُمّ المؤمنين ، فبنا سُمّيت اُمّ المؤمنين ، لا بك ولا بأبيك ، فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مدّه الله عليها ، فهتكاه عنها ، ثمّ اتخذاها فتنة يقاتلان دونها ، وصانا حلائلهما ، فلا أنصفا الله ولا محمّداً من أنفسها ؛ إذ أبرزا زوجة نبيّهما وصانا حلائلهما. وأمّا قتالنا إيّاكم ، فإنّا لقيناكم زحفاً ، فإنْ كنّا كفّاراً ، فقد كفرتم بفراركم منّا ، وإنْ كنّا مؤمنين ، فقد كفرتم بقتالكم إيّانا. وأيَم الله ، لولا مكان صفيّة فيكم ، ومكان خديجة فينا ، لَمَا تركت لبني أسد بن عبد العُزّى عظماً إلاّ كسرتُه. فقال في ذلك أيمن بن خريم الأسدي :
يا بنَ الزُّبيرِ لقدْ لاقيتَ بائقةً |
|
من البوائقِ فالطُفْ لُطفَ مُحتالِ |
لاقيْتهُ هاشميّاً طاب مَنْبتُهُ |
|
في مغرسيهِ كريمَ العمِّ والخالِ |
ما زالَ يقرعُ منكَ العظْمَ مُقتَدِراً |
|
على الجوابِ بصوتٍ مُسمعٍ عالي |
حتّى رأيتُكَ بينَ النّاسِ مُحتَجِراً |
|
خلفَ الغبيطِ وكُنتَ الباذخَ العالي |
إنّ ابنَ عبّاسٍ المعْرُوفُ حكمتُهُ |
|
خيرُ الأنامِ له حالٌ مِنَ الحالِ |
لمّا رماكَ على رُسلٍ بأسْهُمِهِ |
|
جرتْ عليكَ كسوفُ الحالِ والبالِ |
واعلمْ بأنّكَ إنْ عاودْتَ عيبتَهُ |
|
عادَتْ عليكَ مخازٍ ذاتِ أذيالِ |
فرحم الله ابن عبّاس ، فلقد كان من علماء بني هاشم وخطبائهم ، وله مواقف مشهورة ، ومقامات معدودة في نُصرة أمير المؤمنين (ع) وولده ، والذبّ عن حوزة الحقّ ، وفي المناظرة والاحتجاج مع عائشة اُمّ المؤمنين بالبصرة ، ومع أهل النّهروان ، ومع معاوية وابن العاص وابن الزّبير وغيرهم. وكان أمير المؤمنين (ع) يبعثه في المهمات ، واختاره للحكومة يوم الحكمين فأبى أهل العراق ، وكان تلميذ أمير المؤمنين (ع) وبه تخرّج ومنه تعلّم ، وكان مُخلصاً في ولائه وولاء ذرّيّته. ولمّا حضرته الوفاة ، قال : اللهمّ ، إنّي أتقرّب إليك بولائي لعلي بن أبي طالب (ع).