وأين كان حذيفة وجميع أصحاب محمّد (ص) يوم عمرو بن عبد ودّ ، وقد دعا إلى المبارزة فأحجم النّاس كلّهم ما خلا عليّاً ، فإنّه برز إليه وقتله الله على يده؟ ـ والذي نفس حذيفة بيده ، لَعمله ذلك أعظم أجراً من أعمال اُمّة محمّد إلى يوم القيامة. وقال ابن أبي الحديد : وإنّ خروجه إلى عمرو يوم الخندق أجلُّ من أنْ يُقال جليلة ، وأعظم من أنْ يُقال عظيمة ، وما هي إلاّ كما قال أبو الهذيل ، وقد سأله سائل : أيّما أعظم منزلة عند الله علي أمْ غيره؟ فقال : يا ابن أخي ، والله ، لَمبارزة علي عمراً يوم الخندق تعِدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعتهم ، وتُربي عليها ، فضلاً عن رجل واحد. وروى الحاكم في المستدرك بسنده : أنّ النبيّ (ص) قال : «لَمبارزةُ علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق ، أفضل من أعمال اُمّتي إلى يوم القيامة». وفي رواية عن النّبي (ص) أنّه قال : «قتلُ عليٍّ لعمرو بن عبد ودّ أفضل من عبادة الثقلين». وقال ابن تيمية ـ على عادته المعروفة ـ : كيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين الإنس والجن ، ومنهم الأنبياء؟! بل إنّ عمرو بن عبد ودّ هذا لمْ يُعرف له ذكر إلاّ في هذه الغزوة. وردّ عليه صاحب السّيرة الحلبيّة : بأنّ قتل هذا الكافر كان فيه نصرة للدين وخذلان للكافرين. وردّ صاحب السّيرة الحلبيّة أيضاً على قوله : أنّه لم يُعرف له ذكر إلاّ في هذه الغزوة ، بما روي من أنّه قاتل يوم بدر حتّى أثبتته الجراحة ولمْ يشهد اُحداً ، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه ، وأنّه نذر أنْ لا يمسّ رأسه دهناً حتّى يقتل محمّداً. وروى الحاكم في المستدرك : أنّه كان ثالث قريش. أقول : ويردّه أيضاً أنّه كان معروفاً بفارس يليل وفي ذلك يقول مسافح الجمحي يرثي عمراً :
عمرو بنُ عبدٍ كانَ أوّلَ فارسٍ |
|
جزعَ (١) المذادَ (٢) وكان فارسَ يْليلِ(٣) |
وأقلّ نظرة يلقيها الإنسان على تلك الغزوة ، فيرى عشرة آلاف محاصرين للمدينة ، حانقين أشدّ الحنق على المسلمين ، وهم دون الثلث من عسكر المشركين ، بينهم عدد كبير من المنافقين ، وبنو قُريظة إلى جنبهم يخافون منهم على ذراريهم ونسائهم ، وما أصاب المسلمين من الخوف والهلع الذي اضطر النّبي (ص) أنْ يصانع غَطْفان ليرجعوا عن معاونة قريش بثلث ثمار المدينة ، وتعظيم الله ذلك في القرآن بقوله تعالى : (وَإِذْ
_____________________
(١) اسم مكان كانت له فيه وقعة مشهورة.
(٢) جزع : اجتاز.
(٣) المذاد : موضع الخندق. ـ المؤلّف ـ