ولِما في هذا الدِّين من محاسن وموافقة أحكامه للعقول وسهولتها وسماحتها ، ولِما في تعاليمه من السّموِّ والحزم والجدّ ، دخل النّاس فيه أفواجاً ، وقضى أهله على أعظم ممالك الأرض ؛ مملكة الأكاسرة ومملكة الروم ، واخترق شرق الأرض وغربها ودخل جميع أقاليمها وأقطارها ، ودانت به الاُمم على اختلاف عناصرها ولغاتها. وأصبح هذا الرجل الذي فرّ من مكّة مستخفياً ، وأصحابه يُعذّبون ، يدخل مكّة بأصحابه هؤلاء ظاهراً على رغم جبابرة قريش ، فاتحاً لها ، مالكاً رقاب أهلها. وسمت نفسه إلى مكاتبة ملوك الأرض ؛ كسرى وقيصر ومَن دونهما ، ودعاهم إلى الإسلام ، وظهر دينه على الدِّين كلّه كما وعده ربّه ، وفتح أتباعه ممالك الدُّنيا. ولمْ يقمْ هذا الدِّين بالسّيف والقهر كما يُصوّره أعداؤه ؛ بل كما قال الله تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تَبَيّنَ الرّشْدُ من الْغَيّ) ولمْ يحارب أهل مكّة والعرب حتّى حاربوه وأرادوا قتله وأخرجوه ، وأقرّ أهل الأديان التي نزلت بها الكتب السّماويّة على أديانهم ، ولمْ يجبرهم على الدخول في الإسلام ، وأجبر الوثنيّين على ذلك.
ولمْ يكن تأخُّرُ أتباع هذا الدين وضعفهم ناشئاً إلاّ عن عدم تمسّكهم بتعاليم دينهم ، ولمْ يكن فتح العدو لبلادهم إلاّ لتهاونهم بما أمر الله تعالى به ، بقوله : (وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعْتُم من قُوّةٍ وَمن رِبَاطِ الْخَيْلِ) وعدم فهمهم مغزى قوله تعالى : (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ).
ولمْ يطلب النّبي (ص) على ما أسداه إلينا من هذه النّعم العظيمة ، وكابده من المحن في سبيل تبليغ الرسالة أجراً ، إلاّ المودّة في القربى : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى) عن ابن عبّاس : لمّا نزلت هذه الآية ، قالوا : يا رسول الله ، مَن هؤلاء الذين أمرنا الله بمودَّتهم؟ قال : «عليٌّ وفاطمةٌ وولْدُهما». وروى الحاكم في كتاب شواهد التنزيل : قال رسول الله (ص) : «لو أنّ عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ، ثمّ ألف عام ، ثمّ ألف عام حتّى يصير كالشّن البالي ، ثمّ لمْ يُدرك محبَّتنا ، أكبّه الله على منخريه في النّار». ثمّ تلا : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى). وروي عن علي (ع) ، قال : «فينا في آل حم آية ، لا يحفظ مودَّتنا إلاّ كلّ مؤمن». ثمّ قرأ هذه الآية. وإلى هذا أشار الكميت بقوله :
وجدنَا لكُمْ في آلَ حاميمَ آيةً |
|
تأوَّلها منَّا تقيٌّ ومُعربُ |
وقال المؤلف :