يرعد ويبرق عن سحابة جفل (١) لا ماء فيها ، وعمّا قليل تُصيّرها الرّياح فزعاً (٢) ، كيف أرهبه وبيني وبينه ابن بنت رسول الله (ص) (يعني : الحسن (ع)) ، وابن ابن عمّه في مئة ألف من المهاجرين والأنصار؟! والله ، لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأريته الكواكب نهاراً. الكلام اليوم ، والجمع غداً والمشورة بعد ذلك إن شاء الله. ثمّ نزل وكتب إلى معاوية : أمّا بعد ، فقد وصل إليّ كتابك يا معاوية ، وفهمت ما فيه ، فوجدتك كالغريق يُغطّيه الموج فيتشبث بالطُحلُب (٣) (وهو : الخضرة التي تعلو الماء المزن) ويتعلّق بأرجل الضّفادع طمعاً في الحياة ، فامض الآن لطيّتك (٤) واجتهد جهدك ، ولا أجتهد إلاّ فيما يسوؤك ، والسّلام. فلمّا ورد كتاب زياد على معاوية غمّه وأحزنه ، وبعث إلى المغيرة بن شعبة فخلا به ، وقال : يا مغيرة ، إنّي اُريد مشاورتك في أمر أهمّني. قال المغيرة : وما ذاك؟ قال : إنّ زياداً قد أقام بفارس ، وهو رجل ثاقب الرّأي ، ماضي العزيمة ، جوّال الفكر ، وقد خفت منه الآن ما كنت آمنُه إذ كان صاحبه حيّاً ، وأخشى ممالأته حسناً ، فكيف السّبيل إليه؟ قال المغيرة : أنا له إنْ لم أمت ، إنّ زياداً رجل يُحب الشّرف والذّكر وصعود المنابر ، فلو لاطفته المسألة وألنت له الكتاب ، لكان لك أميل وبك أوثق ، فاكتب إليه وأنا الرّسول. فكتب إليه معاوية : من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان ، أمّا بعد ، فإنّ المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب ، وحملك سوء ظنّك بي وبغضك لي على أنْ عققت قرابتي ، وقطعت رحمي ، وبتّت نسبي حتّى كأنّك لست أخي ، وليس صخر بن حرب أباك وأبي ، وشتّان ما بيني وبينك ؛ أطلب بدم ابن أبي العاص (يعني عثمان) وأنت تُقاتلني؟! فاعلم أبا المغيرة ، إنّك لو خضت البحر في طاعة القوم ، فتضرب بالسّيف حتّى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلاّ بُعداً ؛ فإنّ بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشّفرة إلى الثّور الصّريع وقد اُوثق للذبح ، فارجع إلى أصلك واتّصل بقومك. ووعده بالإمرة والصّلة. فرحل المغيرة بكتاب معاوية حتّى قدم على زياد ، فدفع إليه الكتاب فجعل يتأمّله ويضحك ، ثمّ جمع النّاس بعد يومين أو ثلاثة ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها النّاس ، ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم ، وارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم ، فقد نظرتُ في اُمور النّاس منذ قُتل عثمان وفكّرت فيهم ، فوجدتهم كالأضاحي في كلّ عيد يُذبحون ، ولقد
____________________
(١) سحابة جَفْل ، بالفتح فالسكون : أي أمطرت ماءها.
(٢) القزع ، بفتحتين : قطع من السّحاب.
(٣) بضم الطّاء واللام أو كسرهما أو بضم الطّاء وفتح اللام.
(٤) لحاجتك. ـ المولّف ـ