فأجابه بأنّه اختار لهم يزيد. فقال عبد الرّحمن بن أبي بكر : كذبت يا مروان ، وكذب معاوية ، ما الخيار أردتما لاُمّة محمَّد (ص) ، ولكنّكم تُريدون أنْ تجعلوها هرقلية. فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا). فقالت عائشة : كذبت ، والله ما هو به ، ولكنّك أنت فضض من لعنة نبي الله. (أي : أَنّ النّبي (ص) لعن أباك وأنت فضض من لعنته. أي : قطعة وطائفة منها). وقام الحسين بن علي (ع) فأنكر ذلك ، وفعل مثله ابن عمر وابن الزّبير. فكتب مروان بذلك إلى معاوية ، وكان معاوية قد كتب إلى عمّاله بمدح يزيد وأنْ يُوفدوا إليه الوفود ، فكان فيمن أتاه الأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة ، فقال معاوية للضّحاك بن قيس الفهري لمّا اجتمع الوفود عنده : كُن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد. فقام الضّحاك فمدح يزيد ودعا معاوية إلى بيعته ، وتكلّم مَن حضر من الوفود ، فقال معاوية للأحنف : ما تقول يا أبا بحر؟ فقال : نخافكم إنْ صدقنا ، ونخاف الله إنْ كذبنا. وتفرّق النّاس يحكون قول الأحنف. وكان معاوية يُعطي المقارب ويداري المُباعد حتّى استوسق له أكثر النّاس ، فلمّا بايعه أهل العراق والشّام ، سار إلى الحجاز في ألف فارس ، فلمّا دنا من المدينة ، لقيه الحسين بن علي (ع) ، ثمّ لقيه ابن الزّبير ، ثمّ عبد الرّحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر فجفاهم ووبّخهم ، فخرجوا إلى مكّة فأقاموا بها. وخطب معاوية بالمدينة ومدح يزيد ، ثمّ خرج إلى مكّة فجمع هؤلاء الأربعة ، وقال لهم : قد اُعذر من أنذر ، إنّي قائم بمقالةٍ فاُقسم بالله ، لئن ردّ عليَّ أحدكم كلمة في مقامي هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السّيف إلى رأسه. ثمّ دعا صاحب حرسه ، فقال : أقم على رأس كلّ رجل من هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإنْ ذهب رجل منهم يردّ عليَّ ، فليضرباه بسيفهما. ثمّ قال : إنّ هؤلاء الرّهط سادة المسلمين وخيارهم ، وأنّهم قد رضوا وبايعوا يزيداً ، فبايعوا على اسم الله. فبايع النّاس ، ثمّ ركب رواحله وانصرف إلى المدينة ، وبايعه أهل المدينة ، وانصرف إلى الشّام. وجفا بني هاشم ، فأتاه ابن عباس ، فقال له : ما بالك جفوتنا؟ قال : إنّ صاحبكم لم يُبايع ليزيد ، فلم تنكروا ذلك عليه. فقال : يا معاوية ، إنّي لخليق أنْ أنحاز إلى بعض السّواحل فاُقيم به ، ثمّ أنطلق حتّى أدع النّاس كلّهم خوارج عليك. قال : يا أبا العبّاس ، تعطون وترضون. هكذا كانت بيعة يزيد بالقهر والغلبة ، وتأميره على اُمّة محمَّد (ص) ـ كما كانت بيعة أبيه ـ وهو يشرب الخمور ويرتكب الفجور ، ويلعب بالقرود والفهود ، وأصبح أمر الخلافة كما قال الأمير أبو فراس الحمداني :
حتَّى إذا أصبحتْ في غيرِ صاحبِها |
|
باتتْ تُنازعُها الذؤبانُ والرَّخمُ |