محمَّد بن هشام أنّه هو المطلوب فتحيّر ، وأقبل محمَّد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام فرآه مُتحيّراً وهو لا يعرفه ، فقال له : يا هذا ، أراك متحيّراً فمَن أنت؟ قال : ولي الأمان؟ قال : لك أمان الله التّام والعام ، وأنت في ذمّتي حتّى اُخلّصك. قال : أنا محمَّد بن هشام بن عبد الملك ، فمَن أنت؟ قال : أنا محمَّد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقال : عند الله أحتسب نفسي إذاً! فقال : لا بأس عليك ، ولكن تعذرني في مكروه أنا لك به ، وقبيح اُخاطبك به يكون فيه خلاصك بمشيئة الله تعالى. قال : افعل ما تُريد. فطرح رداءه على رأسه ووجهه ، وشدّه به وأقبل يجرّه ، فلمّا أقبل على الربيع لطمه لطمات ، وقال للربيع : يا أبا الفضل ، إنّ هذا الخبيث جمّال من أهل الكوفة ، أكراني جماله ذاهباً وراجعاً وقد هرب منّي ، وأكرى جماله بعض قوّاد الخراسانية ، ولي عليه بذلك بيّنة ، فابعث معي حَرسيّين يصيران به معي إلى القاضي لئلاّ يهرب مني. فبعث معه حرسيّين ، فلمّا بعد عن المسجد قال له : يا خبيث ، تُؤدّي إليَّ حقِّي؟ قال : نعم يابن رسول الله. فقال للحرسيّين : انصرفا. فانصرفا ، فلمّا رجعا أطلقه ، فقبّل محمَّد بن هشام رأسه ، وقال : بأبي أنت واُمّي! (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ثمّ أخرج جوهراً نفيساً فدفعه إليه ، وقال : شرّفني بقبول هذا. فقال : إنّا أهل بيت لا نقبل على المعروف ثمناً ، فانصرف راشداً. وآل أبي طالب معادن العفو والحلم ، والصّفح وكرم الأخلاق ، وعادتُهم ـ خلفاً عن سلفٍ ـ مقابلةُ الإساءة بالإحسان ، فكم قابلوا بني اُميّة على أعظم الإساءة بأعظم الحلم والإحسان في مواضع لا تُحصى ؛ بدأهم بذلك جدّهم رسول الله (ص) ، وبهُداه اهتدوا ، وعلى منهاجه نهجوا. فقد كان من أشدِّ النّاس عليه بمكّة أبو سفيان بن حرب ، فهو الذي جيّش الجيوش عليه يوم اُحد والأحزاب ، وسَعتْ زوجته هند في قتل عمّه حمزة أسد الله وأسد رسوله ، وبقرتْ بطنه عن كبده لتأكل منها فسُمّيت آكلة الأكباد ، ووقف عليه رسول الله (ص) ، فقال : «ما وقفت موقفاً أغيظ عليَّ منْ هذا الموقف». ومع ذلك لمّا فتح مكّة حلم وصفح ، وزاد بأنْ قال : «مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». فجازى بنو اُميّة رسول الله (ص) على إحسانه هذا إليهم ؛ بأنْ أخافوا سبطه وريحانته الحسين بن علي (ع) في بلد يأمن فيه الطّير والوحش ، وهي مكّة بلد الله الحرام ، فخرج منها يوم التروية خائفاً يترقّب ، وكان قد أحرم للحجِّ فجعلها عمرة مفردة وأحلَّ من إحرامه ، فكان النّاس يخرجون إلى منى والحسين خارج إلى العراق ؛ لأنّ يزيد دسّ إليه مع الحاجّ ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة ليقبضوا عليه أو يقتلوه ، ثمّ جهّز عليه ابن زياد الجيوش بأمر يزيد ، فأحاطوا به ومنعوه التَّوجه في بلاد الله العريضة ، ومنعوه وأهله من ماء الفرات الجاري حتّى قتلوه عطشانَ ضامياً ، وقتلوا أنصاره وأهله وأولاده ، وسبوا