جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (٧) وهذا التقريع من الله تعالى لليهود والنواصب ، واليهود جمعوا الأمرين واقترفوا الخطيئتين ، فعظم (٨) على اليهود ما وبخهم به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقال جماعة من رؤسائهم وذوي اللسن والبيان منهم : يا محمد ، إنك تهجونا وتدعي على قلوبنا ما الله يعلم منها خلافه ، إن فيها (٩) خيرا كثيرا ، نصوم ونتصدق ونواسي الفقراء.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنما الخير ما أريد به وجه الله تعالى ، وعمل على ما أمر الله تعالى ، فأما ما أريد به الرياء والسمعة ومعاندة (١٠) رسول الله ، وإظهار الغنى له ، والتمالك والتشرف عليه ، فليس بخير ، بل هو الشر الخالص ، ووبال على صاحبه ، يعذبه الله به أشد العذاب.
فقالوا له : يا محمد ، أنت تقول هذا ، ونحن نقول : بل ما ننفقه إلا لإبطال أمرك ، ودفع رسالتك (١١) ، ولتفريق أصحابك عنك (١٢) ، وهو الجهاد الأعظم ، نأمل به من الله تعالى الثواب الأجل الأجسم ، فأقل أحوالنا أنا تساوينا في الدعاوى ، فأي فضل لك علينا؟
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا إخوة اليهود ، إن الدعاوى يتساوى فيها المحقون والمبطلون ، ولكن حجج الله ودلائله تفرق بينهم فتكشف عن تمويه المبطلين ، وتبين عن حقائق المحقين ، ورسول الله محمد لا يغتنم جهلكم ، ولا يكلفكم التسليم له بغير حجة ، ولكن يقيم عليكم حجة الله تعالى التي لا يمكنكم دفعها ، ولا تطيقون الامتناع من موجبها ، ولو ذهب محمد يريكم آية من عنده لشككتم ، وقلتم : إنه متكلف مصنوع محتال فيه ، معمول أو متواطأ عليه ، فإذا اقترحتم أنتم فأراكم ما تقترحون ، لم يكن لكم أن تقولوا : معمول أو متواطأ عليه أو متأت بحيلة ومقدمات ، فما الذي تقترحون؟ فهذا رب العالمين قد وعدني أن يظهر لكم ما تقترحون ليقطع معاذير الكافرين منكم ، ويزيد في بصائر المؤمنين.
قالوا : قد أنصفتنا ـ يا محمد ـ فإن وفيت بما وعدت من نفسك من الإنصاف ، وإلا فأنت أول راجع عن دعواك للنبوة ، وداخل في غمار (١٣) الأمة ، ومسلم لحكم التوراة لعجزك عما نقترحه عليك ، وظهور الباطل في دعواك (١٤) فيما ترومه من جهتك.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الصدق ينبئ عنكم لا الوعيد (١٥) ، اقترحوا ما تقترحون ليقطع معاذيركم فيما
__________________
(٧) الحشر ٥٩ : ٢١.
(٨) في المصدر : فغلّظ.
(٩) في «ط» نسخة بدل : فينا.
(١٠) في المصدر : أو معاندة.
(١١) في «ط» نسخة بدل : ورفع رئاستك.
(١٢) في «ط» نسخة بدل : منك.
(١٣) دخلت في غمار الناس ـ يضمّ ويفتح ـ أي في زحمتهم وكثرتهم. «الصحاح ـ غمر ـ ٢ : ٧٧٢».
(١٤) في «س» : وظهور باطل دعواك.
(١٥) مثل لفظه : (الصدق ينبئ عنك لا الوعيد) ، ومعناه : أنّ ما ينبئ عدوّك عنك أن تصدق في المحاربة وغيرها ، لا أن توعده ولا تنفّذ لما