ينظر إلى آدم في جلالته ، وإلى شيث في حكمته ، وإلى إدريس في نباهته ومهابته ، وإلى نوح في شكره لربه وعبادته ، وإلى إبراهيم في وفائه وخلته ، وإلى موسى في بغض كل عدو لله ومنابذته ، وإلى عيسى في حب كل مؤمن وحسن معاشرته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب هذا.
فأما المؤمنون فازدادوا بذلك إيمانا ، وأما المنافقون فازداد نفاقهم ، فقال الأعرابي : يا محمد ، هكذا مدحك لابن عمك ، إن شرفه شرفك ، وعزه عزك ، ولست أقبل من هذا شيئا إلا بشهادة من لا تحتمل شهادته بطلانا ولا فسادا ، بشهادة هذا الضب.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا أخا العرب ، فأخرجه من جرابك لتستشهده ، فيشهد لي بالنبوة ، ولأخي هذا بالفضيلة. فقال الأعرابي : لقد تعبت في اصطياده ، وأنا خائف أن يطفر (٧) ويهرب.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تخف ، فإنه لا يطفر ، بل يقف ويشهد لنا بتصديقنا وتفضيلنا. فقال الأعرابي : إني أخاف أن يطفر.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : فإن طفر فقد كفاك به تكذيبا لنا ، واحتجاجا علينا ، ولن يطفر ، ولكنه سيشهد لنا بشهادة الحق ، فإذا فعل ذلك فخل سبيله فإن محمدا يعوضك عنه ما هو خير لك منه.
فأخرجه الأعرابي من الجراب ، ووضعه على الأرض ، فوقف واستقبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومرغ خديه في التراب ، ثم رفع رأسه ، وأنطقه الله تعالى ، فقال : أشهد أن إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وسيد المرسلين ، وأفضل الخلق أجمعين ، وخاتم النبيين ، وقائد الغر المحجلين ، وأشهد أن أخاك علي بن أبي طالب على الوصف الذي وصفته ، وبالفضل الذي ذكرته ، وأن أولياءه في الجنان مكرمون (٨) ، وأن أعداءه في النار خالدون (٩).
فقال الأعرابي وهو يبكي : يا رسول الله ، وأنا أشهد بما شهد به هذا الضب ، فقد رأيت وشاهدت وسمعت ما ليس لي عنه معدل ولا محيص.
ثم أقبل الأعرابي إلى اليهود ، فقال : ويلكم ، أي آية بعد هذه تريدون؟! ومعجزة بعد هذه تقترحون؟! ليس إلا أن تؤمنوا أو تهلكوا أجمعين ، فآمن أولئك اليهود كلهم ، وقالوا : عظمت بركة ضبك علينا ، يا أخا العرب.
ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا أخا العرب ، خل الضب على أن يعوضك الله عز وجل عنه ما هو خير منه ، فإنه ضب مؤمن بالله وبرسوله ، وبأخي رسوله ، شاهد بالحق ، ما ينبغي أن يكون مصيدا ولا أسيرا ، لكنه يكون مخلى سربه (١٠) [تكون له مزية] على سائر الضباب ، بما فضله الله أميرا.
فناداه الضب : يا رسول الله ، فخلني وولني تعويضه لأعوضه. فقال الأعرابي : وما عساك تعوضني؟
__________________
(٧) طفر : وثب في ارتفاع. «لسان العرب ـ طفر ـ ٤ : ٥٠٢».
(٨) في المصدر : يكرمون.
(٩) في المصدر ، و «ط» نسخة بدل : يهانون.
(١٠) السّرب : الطريق. «لسان العرب ـ سرب ـ ١ : ٤٦٤».