أسكنتهم فيها ، فعملوا بالمعاصي ، وغيروا ديني ، وبدلوا نعمتي كفرا ، فبي حلفت ، لأمتحننهم بفتنة يظل الحليم فيها حيرانا ، ولا سلطن عليهم شر عبادي ولادة ، وشرهم طعاما ، فيسلطن عليهم بالجبرية فيقتل مقاتليهم ، ويسبي حريمهم ، ويخرب ديارهم التي يغترون بها ، ويلقي حجرهم الذي يفتخرون به على الناس في المزابل مائة سنة.
فأخبر إرميا أحبار بني إسرائيل ، فقالوا له : راجع ربك ، فقل له : ما ذنب الفقراء والمساكين والضعفاء؟
فصام إرميا سبعا ، ثم أكل أكلة فلم يوح إليه شيء ، ثم صام سبعا (٤) ، فأوحى الله إليه : يا إرميا ، لتكفن عن هذا ، أو لأردن وجهك إلى (٥) قفاك». قال : «ثم أوحى الله تعالى إليه : قل لهم لأنكم رأيتم المنكر فلم تنكروه.
فقال أرميا : رب ، أعلمني من هو حتى آتيه ، فآخذ لنفسي وأهل بيتي منه أمانا؟ قال : ائت موضع كذا وكذا ، فانظر إلى غلام أشدهم زمانة (٦) ، وأخبثهم ولادة ، وأضعفهم جسما ، وشرهم غذاء ، فهو ذلك.
فأتى إرميا ذلك البلد فإذا هو بغلام في خان ، زمن (٧) ، ملقى على مزبلة وسط الخان ، وإذا له أم ترمي بالكسر ، وتفت الكسر في القصعة ، وتحلب عليه خنزيرة لها ، ثم تدنيه من ذلك الغلام فيأكله.
فقال إرميا : إن كان في الدنيا الذي وصفه الله فهو هذا. فدنا منه ، فقال له : ما اسمك؟ قال : بخت نصر. فعرف أنه هو ، فعالجه حتى برئ. ثم قال له : تعرفني؟ قال : لا ، أنت رجل صالح. قال : أنا إرميا نبي بني إسرائيل ، أخبرني الله أنه سيسلطك على بني إسرائيل فتقتل رجالهم ، وتفعل بهم كذا وكذا ـ قال ـ : فتاه (٨) الغلام في نفسه في ذلك الوقت ، ثم قال إرميا : اكتب لي كتابا بأمان منك. فكتب له كتابا ، وكان يخرج إلى الجبل ويحتطب ، ويدخله المدينة ويبيعه ، فدعا إلى حرب بني إسرائيل فأجابوه ، وكان مسكنهم في بيت المقدس ، وأقبل بخت نصر ومن أجابه نحو بيت المقدس ، وقد اجتمع إليه بشر كثير ، فلما بلغ إرميا إقباله نحو بيت المقدس ، استقبله على حمار له ومعه الأمان الذي كتبه له بخت نصر ، فلم يصل إليه إرميا من كثرة جنوده وأصحابه ، فصير الأمان على قصبة أو خشبة ورفعها ، فقال : من أنت؟ فقال : أنا أرميا النبي الذي بشرتك بأنك سيسلطك الله على بني إسرائيل ، وهذا أمانك لي.
فقال : أما أنت فقد أمنتك ، وأما أهل بيتك فإني أرمي من هاهنا إلى بيت المقدس ، فإن وصلت رميتي إلى بيت المقدس فلا أمان لهم عندي ، وإن لم تصل فهم آمنون. وانتزع قوسه ورمى نحو بيت المقدس ، فحملت الريح النشابة حتى علقتها في بيت المقدس ، فقال : لا أمان لهم عندي.
فلما وافى نظر إلى جبل من تراب وسط المدينة ، وإذا دم يغلي وسطه ، كلما ألقي عليه التراب خرج وهو يغلي ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : هذا [دم] نبي كان لله ، فقتله ملوك بني إسرائيل ودمه يغلي ، وكلما ألقينا عليه التراب خرج يغلي.
__________________
(٤) في المصدر زيادة : وأكل أكلة ، ولم يوح إليه شيء ، ثمّ صام سبعا.
(٥) في المصدر : في.
(٦) الزّمانة : مرض يدوم. «المعجم الوسط ـ زمن ـ ١ : ٤٠١».
(٧) الزّمن : وصف من الزّمانة ، أي مريض.
(٨) تاه : تحيّر أو تكبّر. «الصحاح ـ تيه ـ ٦ : ٢٢٢٩».