أَي : بعيد مدى جالِيها ، أو مَسَافة جاليها وَيُؤَكِّدُ كَونَ (بَيْنَ) هُنَا اسماً لا ظرفاً أنَّ بَعَّدَ وباعدَ فعلانِ متعدّيانِ فمفعولهما معهما ، وليسَ (بينَ) هاهنا مثلها في قَولِك : جلست بينَ القومِ لاِنَّ معناهُ جلستُ في ذَلِك الموضِعِ ، وَلَيْسَ يريدُ هُنَا بَعَّدَ أو بَاعِد فيما بينَ أَسفَارنَا شيئاً.
قالَ أَبو حاتم : وَزَعَمُوا أَنَّ العِمَارةَ اتصلت ببلادِهِم : فَأَرادوا أَنْ يسيروا على رواحِلِهِم في الفيافي ، فدعوا على أَنفُسِهِم ، فهو قوله سبحانَهُ : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُم) (١) وَكَانَ شيخُنَا أَبو علي يَذْهَبُ إلى أَنَّ أصل (بَينَ) أَنَّها مصدرُ بانَ يبينُ بَينَا ثُمَّ استعملتْ ظَرفاً اتساعاً وَتَجَوُّزاً كَمقْدَم الحاج وخِلافة فُلان. قَالَ : ثُمَّ استعمِلَتْ واصلةً بينَ الشَيئَينِ وإنْ كَانَتْ في الأصلِ فَاصِلةً.
وَذَلِك لاَِنَّ جهتيها وَصَلَتَا ما يجاورهما بِهَا ، فَصَارتْ واصلةً بينَ الشَّيئَينِ ، هذا معنى قَولِهِ وجِمَاعُ مرادِهِ فيهِ ، وَعَلَيْهِ قراءةُ مَنْ قَرَأَ : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) (٢) بالرفع (٣) أي : وصلكم (٤).
وأَجَازَ أَبو الحسن في قولِهِ تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّع بِيْنَكُم) بالفتحِ (٥) أنْ يَكونَ في موضعِ رَفع إلاَّ أَنَّ فتحَةَ الظرفِ لزمتْهُ والمُرَادُ الرَّفْعُ (٦). وَيُمكن عِندِي أنْ
__________________
وهو الصحيح. والأَشطان : الحِبَالُ ، والجَالُ : الجانبُ ، والبئرُ الحرورُ : البعيدةُ. انظر : مجالس العلماء للزجّاجي : ١٤٣ ولسان العرب : ١٦ / ٢٠٩ ومعجم شواهد العربية : ١ / ١٨٥.
(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٩ وقد ذكرنا الآية في الصفحة السابقة : ص : ٢٨١.
(٢) من سورة الأنعام : ٦ / ٩٤ : (لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ).
(٣) قرأَ بِها السبعة باستثناءِ نافع والكِسائي. انظر : الكشف عن وجوه القراءات السبع : ١ / ٤٤٠.
(٤) نقل ذلك أَبو حيَّان عن أَبي الفتح : انظر : البحر المحيط : ٤ / ١٨٢.
(٥) قراءة نافع والكسائي وحفص. انظر : الكشف عن علل القراءات السبع : ١ / ٤٤٠.
(٦) انظر : مشكل إعراب القرآن : ١ / ٢٦٢ والكشف عن علل القراءات : ١ / ٤٤١ والجامع لأحكام القرآن : ٧ / ٤٣ وزاد المسير : ٣ / ٨٩.