وإنْ شِئْتَ كَانَ التَقْدِيرُ فَمِنْ مَنَافِعها أَوْ مِنْ أغرَاضِها رُكُوبهم ، كما تقولُ لِصَاحِبِك : مِنْ مَنَافِعِك إعطاؤُك لِي ، وَمِنْ بركاتِك وُصُولُ الخيرِ إليَّ عَلَى يَدِك. ومِثْلُهُ تَقْدِيرُ حذفِ المُضافِ مِنْ جِهَتَينِ ، أَيَّ الجهتينِ شِئتَ قولُ اللهِ سبحانَهُ : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) (١) إنْ شِئتَ كَاَنَ عَلَى تَقْدِيرِ وَلَكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ اتَّقَى ، وَإن شِئْتَ كَانَ تَقْدِيرُهُ ، وَلَكِنَّ ذَا البِرِّ مِنْ اتَّقَى.
والتقدير الأولُ في هذا أجودُ عندنا ، وذلك أنَّ تقديرَهُ حذف المضاف من الخبر أَعني بِرَّ مَن اتَّقَى ، والخبرُ أَولَى بِذَلِك مِنْ المبتدأِ ، وَذَلِك أَنَّ حذف المضافِ ضربٌ مِنَ التوسُّعِ ، والتوسّعُ آخر الكلام أَولى بهِ من أَوَّلِهِ ، كما أَنَّ الحذْفَ والبَدَلَ كُلَّمَا تَأَخَّرا كَانَ أَمْثَلَ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الصُّدُورُ أَوْلَى بالحقائقِ مِنَ الأعجازِ ، وَهَذَا وَاضح ، وَلِذَلِك اعتَمَدَهُ عِندَنَا صاحبُ الكِتابِ فَحَمَلَهُ عَلَى أنَّ التَقْدِيرَ : وَلَكَنَّ البِرَّ بِرُّ مَنِ اتّقَى (٢).
أَجَازَ أَبوُ الَعبّاسِ (٣) أَنْ يَكونَ الحذفُ مِنَ الأولِ على مَا مَضى وَهوَ لَعَمْرِي جائزٌ إلاَّ أنَّ الوَجْهَ ما قَدّمْنَا ذِكْرَهُ ، لَكِنَّ الحَذْفَينِ فِي قَوْلِهِ : (فَمِنْهَا رُكُوبُهُم) ـ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ـ متساويان ، وَذَلَك إنْ قَدّرتَهُ عَلَى أَنَّهُ : فَمِنْ
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨٩.
(٢) لم يذكر سيبويه هذه الآية التي خرجناها في الحاشية السابقة ، وإنَّمَا ذكرَ آيةً أخرى شبيهةً بها من سورة البقرة : ٢ / ١٧٧ ، فقال : «وقال عزَّوجَلَّ : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) وإنَّمَا هو ولكِنّ البِرَّ برُّ مَنْ آمَنَ باللهِ واليومِ الآخرِ». ويبدو أَنَ أبا الفتح ينقل من حفظه. انظر : الكتاب : ١ / ١٠٨.
(٣) قال في المقتضب : ٣ / ٢٣١ : الوجه : وَلَكنّ البِرَّ برُّ مِنْ آمَنَ بِاللهِ وَيجوز أن يوضَعَ البِرّ فِي موضِعِ البَارِّ. وهَذَا الوَجهَ سبَقَ أنَ ذَهبَ إليهِ الأخْفَشُ. انظر : معاني القرآن للأَخْفَش : ٦٨ / أ.