فَإنْ قُلْتَ : فَإنَّ المشركينَ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ أُشْهِدُوا خَلَقَ ذَلِك ، ولاَ حَضَرُوهُ.
قيلَ : اجتراؤهم على ذلكَ ، ومجاهرتُهُم بِهِ ، واعتقادهم إيَّاهُ وانطواؤهم عليهِ فِعلَ مَنْ شاهدَهُ وعاينَ مُعْتقَدَ مَا يَدَّعِيهِ فيهِ ، لا من هو شاك ومُرجِمٌ ومُتظن ، إنْ لم يكنْ معانِداً ومُتَخَرِّصاً لِمَا لا يَعتقدُهُ أصلاً.
فلما بلغوا هذه الغاية ، صارُوا كالمُدَّعِينَ أنّهم قد شهدوا ما تشهروا بِهِ وأَعصمُوا باعتقادِهِ.
وهذا كقولِكَ لِمَنْ يزكي نفسه وينفي الخبائث عنها أو شيئاً من الرذائِلِ أنْ تتمّ عليها : وأنتَ إذا تقولُ إنَّكَ معصومٌ ، وهو لمْ يلفظ بادعائِهِ العِصْمَةَ ، لكنَّهُ لَمّا ذهبَ بنفسِهِ ذلك المَذْهَبَ صَاَرَ بمنزلةِ مَنْ قَالَ : أنا معصومٌ ومثله أنْ يقولَ الإنسانُ : القرآنُ ليسَ بمعجز ، والنبيُّ صلّى الله عليه وآله ليس بِمُرْسَل ، فتقول أنت : هذا الّذيتقولُ الحقَّ باطلٌ ، وهو لَمْ يلفظْ بِذَلِكَ ، لَكنَّ صورَتَهُ صورةُ مَنْ لَفَظَ بهِ.
وعَليهِ قولُ اللهِ سبحانه : (يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ) (١) إذا تأوّلتَ ذَلِك عَلَى أَنَّهُ كَأَ نَّهُ قَالَ : يَقولُ لِمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إله (٢) ، ثُمَّ حَذَفْتَ
__________________
(١) سورة الحج : ٢٢ / ١٣.
(٢) قال الأخفش : يدعو بمنزلة يقول ، ومَنْ رَفَعَ وأَضمَرَ الخبَرَ كأ نّه يدعو لمن ضرُّهُ أَقرَبُ من نفعِهَ إله. يقول : لمن ضَرُّهُ أقربُ من نفعِهِ إلهٌ.
ويقول الفرّاء : جاء التفسير : يدعو من ضَرُّهُ أقربُ من نفعِهِ وقد حالتِ اللاّم بينهما ... ولم نجد العرب تقول : ضربتُ لأخاك ولا رأيت لزيداً أفضلَ منك ، ويرى أبو علي الفارسي أنْ يدعو شُبِّهَ بأفعالِ القلوبِ لاَِنَّ الدعاءَ لا يصدر إلاَّ عَن اعتقاد ، والأَحسن أَنْ يضمن مَعَنى يَزْعُمُ ويقدر لمن خبره والجملة في موضع نصب ليدعو.