أعترض عليه فيما أمر ، ألا ترون أنه لما حرم العمل يوم السبت ، وحرم لحم الجمل ، لم يكن لنا أن نقترح عليه أن يغير ما حكم الله (٩) علينا من ذلك ، بل علينا أن نسلم له حكمه ، ونلتزم ما ألزمنا ؛ وهم أن يحكم عليهم بالذي كان يحكم به على غيرهم في مثل حادثتهم.
فأوحى الله عز وجل إليه : يا موسى ، أجبهم إلى ما اقترحوا ، وسلني أن أبين لهم القاتل ليقتل ، ويسلم غيره من التهمة والغرامة ، فإني إنما أريد بإجابتهم إلى ما اقترحوا توسعة الرزق على رجل من خيار أمتك ، دينه الصلاة على محمد وآله الطيبين ، والتفضيل لمحمد وعلي بعده على سائر البرايا ، أغنيه في الدنيا في هذه القصة (١٠) ، ليكون من بعض ثوابه عن تعظيمه لمحمد وآله.
فقال موسى : يا رب ، بين لنا قاتله ؛ فأوحى الله تعالى إليه : قل لبني إسرائيل : إن الله يبين لكم ذلك ، بأن يأمركم أن تذبحوا بقرة ، فتضربوا ببعضها المقتول فيحيا ، فتقبلوا (١١) لرب العالمين ذلك ، وإلا فكفوا عن المسألة ، والتزموا ظاهر حكمي.
فذلك ما حكى الله عز وجل : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) إن أردتم الوقوف على القاتل ، تضربوا المقتول ببعضها فيحيا ، ويخبر بالقاتل (قالُوا ـ يا موسى ـ أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) سخرية؟ تزعم أن الله أمرنا أن نذبح بقرة ، ونأخذ قطعة من الميت ، ونضرب بها ميتا ، فيحيا أحد الميتين بملاقاته بعض الميت الآخر ، كيف يكون هذا؟! قال موسى عليهالسلام : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أنسب إلى الله تعالى ما لم يقل لي ، وأن أكون من الجاهلين ، أعارض أمر الله بقياسي على ما شاهدت ، دافعا لقول الله تعالى وأمره.
ثم قال موسى عليهالسلام : أوليس ماء الرجل نطفة ميتة ، وماء المرأة كذلك ، ميتان يلتقيان فيحدث الله تعالى من التقاء الميتين بشرا حيا سويا؟ أوليس بذوركم التي تزرعونها في أرضيكم تتفسخ وتتعفن وهي ميتة ، ثم تخرج (١٢) منها هذه السنابل الحسنة البهيجة ، وهذه الأشجار الباسقة (١٣) المونقة؟
فلما بهرهم موسى عليهالسلام (قالُوا) يا موسى (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي ما صفتها ، لنقف عليها ؛ فسأل موسى ربه عز وجل ، فقال : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) كبيرة (وَلا بِكْرٌ) صغيرة لم تفرض (١٤) (عَوانٌ) وسط (بَيْنَ ذلِكَ) بين الفارض والبكر (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) إذا ما أمرتم به. (قالُوا) يا موسى (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) أي لون هذه البقرة التي تريد أن تأمرنا بذبحها.
__________________
(٩) في المصدر زيادة : به.
(١٠) في المصدر : القضية.
(١١) في المصدر : فتسلّمون.
(١٢) في المصدر : يخرج الله.
(١٣) الباسقة : الطويلة.
(١٤) فرضت البقرة : كبرت وطعنت في السن. «الصحاح ـ فرض ـ ٣ : ١٠٩٧» ، في المصدر : لم تغبط.