ثمّ تركهم أيّاما ثمّ دعا رءوسهم ووجوههم فسألهم : ما الذي يثبّطهم؟ فمنهم المعتلّ ومنهم المنكر ، وأقلّهم النشيط ، فقام فيهم ثانية وقال لهم :
عباد الله ، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ)(١) ثوابا ، وبالذلّ والهوان من العزّ خلفا؟ أو كلّما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم ، كأنّكم من الموت في سكرة! يرتج عليكم فتبكمون ، فكأنّ قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون! وكأنّ أبصاركم كمه فأنتم لا تبصرون! لله أنتم! ما أنتم إلّا اسود الشرى في الدّعة ، وثعالب روّاغة حين تدعون ، ما أنتم بركن يصال به ، ولا زوافر عزّ يعتصم بها. لعمرو الله ، لبئس حشّاش نار الحرب أنتم ، إنّكم تكادون ولا تكيدون ، وتنتقص أطرافكم ولا تتحاشون (٢) ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون.
إنّ أخا الحرب اليقظان ، أودى من غفل ، ويأتي الذلّ من وادع ، غلب المتخاذلون ، والمغلوب مقهور ومسلوب.
أمّا بعد ، فإنّ لي عليكم حقّا ولكم عليّ حقّ ، فأمّا حقّي عليكم : فالوفاء بالبيعة ، والنصح لي في المشهد والمغيب ، والإجابة حين أدعوكم ، والطاعة حين آمركم.
وإنّ حقّكم عليّ : النصيحة لكم ما صحبتكم ، والتوفير عليكم ، وتعليمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كي تعلموا ، فإن يرد الله بكم خيرا وتنزعوا عمّا أكره وترجعوا إلى ما احبّ ، تنالوا ما تحبّون وتدركوا ما تؤمّلون (٣).
__________________
(١) سورة التوبة : ٣٨.
(٢) القدر المتيقن يومئذ من انتقاص أطرافهم انتقاص بلاد الشام بمعاوية قبل غاراته.
(٣) الغارات ١ : ٣٣ ـ ٣٨ وذكر المحقّق مصادر اخرى ، وفي نهج البلاغة خ ٣٤ ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٧٩ ولو لا نصّ المصادر أنّها أوّل خطبة في الكوفة بعد النهروان لقلنا إنّها كانت في خضمّ الغارات.