فلم تك رغبة من رغب عنهم وعن صحبتهم إلّا لمرارة الحقّ حيث جرّعوها ، ولو عورته حيث سلكوها ، وغلبت عليهم دنيا مؤثرة وهوى متّبع! وكان أمر الله «قدرا» مقدورا! وقد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الأيهم (الغسّاني) فرارا من الضيم وأنفا من الذلّة! يا معاوية! فلا تفخرنّ أن قد شددنا إليك الرحال وأوضعنا نحوك الركاب ، فتعلم وتنكر! أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولجميع المسلمين!
فأجابه معاوية متحلّما : يا ابن عبد الله ، ما أردنا أن نوردك مشرع ظماء ، ولا أن نصدرك عن مكرع رواء! ولكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير الذي ينطوي عليه من الفعل. ثمّ دعاه إليه حتّى أجلسه معه على سريره! ودعا له ببرود ومقطعات أقمشة طرحها عليه وأقبل يحدثه حتّى قام!
وكان من وجوه جهينة لدى معاوية : عمرو بن صيفي وعمرو بن مرّة فخرجا معه وأقبلا عليه يلومانه لمقاله! ولعلّه كان ذلك بإيعاز من معاوية ، فأجابهما : والله ما قمت بما سمعتماه حتّى خيّل إليّ أن بطن الأرض أحبّ إليّ من ظهرها ، عند إظهاره ما أظهر من البغي والعيب والنقص لأصحاب محمد صلىاللهعليهوآله ولمن هو خير منه في العاجلة والآجلة ، وما زهت به نفسه ، وملكه عجبه ، وعاب أصحاب رسول الله واستنقصهم! ولقد قمت عنده مقاما أوجب الله عليّ فيه أن لا أقول إلّا حقّا! وأيّ خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا؟! ثمّ تمثل شعرا.
ثمّ عمل معاوية في إطراء طارق وتعظيم أمره حتّى استلّ ما وجد في نفسه عليه.
وبلغ ما قال طارق لمعاوية إلى الإمام عليهالسلام فقال فيه : لو (كان) يومئذ قتل أخو بني نهد لقتل شهيدا! ولعلّه بلغه كلام الإمام فيه ، فتوافق والنجاشي فعادا إلى الإمام عليهالسلام (١).
__________________
(١) الغارات ٢ : ٥٣٩ ـ ٥٤٤.