والمرضى يتبعدون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس يستقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم. (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي ليس عليكم مأثم في أن تأكلوا من بيوت أولادكم بغير إذن بالعدل لقوله صلىاللهعليهوسلم : «أنت ومالك لأبيك» (١) وقوله صلىاللهعليهوسلم : «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه»(٢). (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) من الأب أو الأم ، أو منهما بالنسب أو الرضاع (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ).
قال السدي كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام ، فيتحرج لأنه ليس ثمّ رب البيت. فأنزل الله تعالى هذه الرخصة : (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ).
روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله في هذه الآية : أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم ، وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا : لا ندخلها وهم غائبون ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم ، وهذا قول عائشة رضياللهعنها (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي بيت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية ، ونزل هذا في حق مالك بن زيد ، والحرث بن عمار ، وكانا صديقين. ونقل عن ابن عباس ومقاتل بن حبان : نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو وذلك أنه خرج مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم : وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك ، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى : يجوز الأكل من بيوت من ذكر إذا علم رضاه بصريح الإذن أو بقرينة دالة عليه وإن كانت ضعيفة ، كما علم بالعادة في طيب أنفسهم فإن العادة كالإذن في ذلك ، والمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة ، لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي مأثم في (أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً). قيل : نزلت هذه الآية في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الآكلين في كثرة الأكل وقلته. وقال أكثر المفسرين : نزلت في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة حيث كانوا يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين ، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد من يواكله لم يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحافلات ، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد
__________________
(١) رواه النسائي في كتاب البيوع ، باب : الحث على الكسب ، وابن ماجة في كتاب التجارات ، باب : الحث على المكاسب ، والدارمي في كتاب البيوع ، باب : في الكسب وعمل الرجل بيده ، وأحمد في (م ٦ / ص ٣١).
(٢) رواه السهمي في تاريخ جرجان (٤٥٣).