أ ـ الأصل في الأشياء الإباحة (١) :
وهذا الكلام ان أريد به ظاهره من ان الأشياء قبل ورود الشرع بها محكومة بالإباحة كما هو ظاهر مذهب جماعة من المعتزلة فيما حكاه الغزالي عنهم (٢) ، فهو أجنبي عن الاستصحاب لأن كلام هؤلاء ناظر فيما يبدو إلى ان الإباحة حكم واقعي لها قبل جعل الأحكام ، والاستصحاب حكم ظاهري مجعول عند الشك ، على ان المبنى في نفسه غير سليم ، وقد ناقشه الغزالي بقوله : «المباح يستدعي مبيحا كما يستدعي العلم والذّكر ذاكرا وعالما ، والمبيح هو الله تعالى إذا خيّر بين الفعل والترك بخطابه ، فإذا لم يكن خطاب لم يكن تخيير فلم تكن إباحة» (٣).
وجواب الغزالي هذا مبني على أن الجعل الشرعي متحد الرتبة مع خطاب الشارع ، أو انه مجعول بالخطاب ، أما إذا قلنا ان الخطاب مبرز للجعل الشرعي ، والجعل في مقام الثبوت سابق رتبة وزمانا عليه ، كما هو مذهب الكثير ، فإن جوابه لا يتم.
والجواب على هذا المبنى : أن أحكام الشارع لما كانت وليدة مصالح ومفاسد في المتعلقات غالبا ـ وهو ما تكاد تتفق عليه كلمة المسلمين على اختلاف في المبني ـ ولما كانت المتعلقات مختلفة من حيث التوفر على المصالح والمفاسد فأحكامها حتما مختلفة ، فالقول بجعل الإباحة لها بقول مطلق لا يستند على أساس.
وإن أريد بها الحكم الظاهري ، أي ان الأشياء محكومة بالإباحة ظاهرا عند الشك في حكمها الواقعي ، فهي وإن كانت صحيحة. لقول أبي عبد الله عليهالسلام كما في موثقة مسعدة بن صدقة ، قال : سمعته يقول : «كل شيء هو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته
__________________
(١) مصادر التشريع : ص ١٢٩.
(٢) المستصفى : ١ ـ ٤٠.
(٣) المصدر السابق.