المصلحة الراجحة وإن ضحوا في سبيله بالكثير ، فالتجار يسافرون من أجل احتمال الربح الأسفار البعيدة ، وإن كلّفتهم كثيرا من الجهة والمال ، فالقول بأن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ليس صحيحا على إطلاقه.
فالقاعدة ليست قاعدة مسلمة إذن لدى العقلاء في جميع الموارد ، كما لم يقم عليها دليل شرعي لنتعبد بها ، فالمسألة لا تخرج اذن عن كونها من صغريات باب التزاحم ، وقد مر البحث فيها مفصلا في مبحث الاستحسان (١).
ب ـ على أن مسألتنا هذه أجنبية عن القاعدة ، لأن القاعدة ـ لو تمت ـ فإنما هي في المفسدة والمصلحة المعلومتين. أما المفسدة والمصلحة المشكوكتان فلا تجري بينهما هذه الموازنة.
وقد سبق ان قربنا ـ في مبحث الاحتياط الشرعي (٢) ـ أن المرجع في الشبهات التحريمية هو البراءة ، فاحتمال المفسدة في شيء ـ حتى مع القطع بعدم وجود المصلحة ـ لا يقام له وزن في نظر الشارع لأدلة البراءة ، فكيف إذا احتمل وجود المصلحة فيه؟
٣ ـ التخيير والقول بالتخيير الشرعي :
وقد أوردوا على هذا التخيير بأنه إن أريد به التخيير في المسألة الأصولية ـ أعني اختيار أحدهما والإفتاء على طبقه ـ فهو غير سليم لعدم الدليل عليه ، وقياسه على الخبرين المتعارضين قياس مع الفارق ، لوجود النص فيهما وعدمه هنا.
على أن الّذي سبق ان استظهرناه من الأدلة هو عدم تماميتها في إثبات الوظيفة الشرعية حتى في الخبرين المتعارضين ، ولذلك رجعنا إلى القاعدة وهي تقتضي
__________________
(١) راجع : ص ٣٤٥ وما بعدها من هذا الكتاب.
(٢) راجع : ص ٤٧٧ وما بعدها من هذا الكتاب.