هذا المعنى بما فيهم الشارع ، وإدراكه لتطابق العقلاء ليس من الأمور البديهية كما سبق أن قلنا ، وإنما هو من الآراء المحمودة التي تحتاج إلى تنبه وتأدب ، وأين التأدب في أمثال هذه القضايا قبل بعثة الرسل؟!
فالتكليف اذن ، بالنسبة إلى نوع الناس غير واصل قبل البعثة ، ولا تتم الحجة إلا بوصوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١).
ومن أوليات العقل تقبيحه للعقاب قبل وصول البيان ، وعلى هذا فليس هناك ما يمنع من الالتزام بإدراك العقل للحسن وعدم الالتزام بالعقاب والثواب.
والّذي يبدو من بعض الأحاديث أن هناك من أدرك حكم الشارع من طريق العقل وخالفه فاستحق لذلك العقاب ، ففي بعض الأحاديث : «إمرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار» ، وفي بعضها الآخر «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبة ـ أي أمعاءه ـ في النار» (٢) لأنه أول من بحر البحائر (٣) وسيب السوائب (٤). ومن المعلوم انه لا عقاب بلا تكليف واصل ، اللهم إلا ان يدعى وصول التكليف إليهم من الرسل السابقين على الإسلام.
وعلى أي حال فالثواب والعقاب وليدا وصول التكاليف ، وإدراك تطابق العقلاء الكاشف عن رأي المولى والموصل للتكاليف ليس من البديهيات ، وكونه من الآراء المحمودة مما يحتاج إلى التأدب ، وهو غير حاصل نوعا في تلكم العصور السابقة على بعثة الرسل قطعا ، فلا تلازم اذن بين إدراك العقل وعدم العقاب ،
__________________
(١) سورة الإسراء : الآية ١٥.
(٢) صحيح البخاري : كتاب المناقب ، الحديث ٣٢٦٠. ومسند أحمد : الحديث ٧٣٨٥.
(٣) البحيرة : الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها ، أي شقّوها ، وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل ... وجاء في الحديث : «أول من بحر البحائر ، وحمى الحامي ، وغيّر دين إسماعيل عمرو بن لحي». (تاج العروس : ١٠ ـ ١١٥ (بحر) طبع دار الهداية.
(٤) سيّب : أي أطلق البهائم للآلهة فلا يحمل عليها. والسوائب جمع السائبة وهي ما أطلق من الدواب للآلهة.