على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر ، كان حكمه على أساس صحيح معتبر من الشارع ، ولذلك لم يفتح باب الاستصلاح إلا في المعاملات ونحوها مما تعقل معاني أحكامها فلا تشريع فيها بالاستصلاح» (١).
وهذا الاستدلال لا يتم إلا على مبنى من يؤمن بالتحسين والتقبيح العقليين ، والدليل ـ كما ترون ـ قائم على الاعتراف بإمكان إدراك العقل لذلك.
وقد سبق ان قلنا : ان العقل قابل للإدراك ، ولو أدرك على سبيل الجزم كان حجة قطعا لكشفه عن حكم الشارع ، ولكن الإشكال كل الإشكال في جزمه بذلك لما مر من أن أكثر الأفعال الصادرة عن المكلفين ، اما ان يكون فيها اقتضاء التأثير أو ليس فيها حتى الاقتضاء ، وما كان منها من قبيل الحسن والقبح الذاتيين فهو نادر جدا ، وأمثلته قد لا تتجاوز العدل والظلم وقليلا من نظائرهما.
وما فيه الاقتضاء يحتاج إلى إحراز تحقق شرائطه وانعدام موانعه ، أي إحراز تأثير المقتضي وهو مما لا يحصل به الجزم غالبا لقصور العقل عن إدراك مختلف مجالاته ، وربما كن بعضها مما لا يناله إدراك العقول كما مر عرض ذلك مفصلا.
٢ ـ قولهم : «ان الوقائع تحدث والحوادث تتجدد ، فلو لم يفتح للمجتهدين باب التشريع بالاستصلاح ضاقت الشريعة الإسلامية عن مصالح العباد وقصرت عن حاجاتهم ، ولم تصلح لمسايرة مختلف الأزمنة والأمكنة والبيئات والأحوال مع انها الشريعة العامة لكافة الناس ، وخاتمة الشرائع السماوية كلها» (٢).
وقد أجبنا على نظير هذا الاستدلال في مبحث القياس ، وبيّنا أنّ أحكام الشريعة بمفاهيمها الكلية لا تضيق عن مصالح العباد ولا تقصر عن حاجاتهم ، وهي بذلك مسايرة لمختلف الأزمنة والأمكنة والبينات والأحوال ، وبخاصة إذا
__________________
(١) مصادر التشريع : ص ٧٥.
(٢) المصدر السابق.