وإيضاح الأمر ان المجعول في باب الطرق والأمارات ليس هو مدلول ما قامت عليه الأمارة ، وإنما المجعول فيها هو نفس الطريقية والوسطية في الإثبات ، وهي من الأحكام الوضعيّة القابلة للجعل بنفسها ، والشارع انما جرى في اعتبارها على وفق ما جرى عليه العقلاء ، وأكثر الأمارات والطرق مما اعتمدوها وألغوا احتمال المخالفة للواقع بسيرهم على وفقها ، وأعطوها وظيفة العلم من حيث الكاشفية عن الواقع ، فهم في الحقيقة انما تمموا كشفها باعتبارهم لها ، وجاء الشارع فأقرّهم عليها وألزمنا بها من طريق الإمضاء. وإذا كان العلم ـ وهو أتم كشفا للواقع منها ـ لا يغير في الواقع ولا يبدل فيه بل لا يضيف إليه حكما جديدا فيما قام عليه إذا وافقه أو أخطأه ، فحساب الأمارة فيها أوضح ، فما قامت عليه الأمارة لا يخلق حكما ظاهريا ليفكر في كيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ، وكل ما هنالك تبني الشارع لكشفها بتتميمه من قبله ، وهو لا يستدعي أكثر من ثبوت المنجزية والمعذرية كما سبق بيان ذلك.
وما يقال عن الأمارة يقال عن الأصل الإحرازي ، إذ المجعول فيه أيضا هو الطريقية والوسطية في الإثبات ، لكن لا من تمام الجهات كما كان في الأمارات ، بل من حيث الجري العملي على وفق ما قام عليه الأصل واعتباره واقعا ، ولهذا الفارق بينهما حكمت الأمارة عليه كما يأتي إيضاح ذلك.
وأما الأصول غير الإحرازية ، فهي غير ناظرة إلى جعل حكم أصلا أو إثباته ، وإنما هي ناظرة إلى رفع الحيرة فقط عند الشك وألسنتها صريحة بذلك «احتط لدينك» (١) «الناس في سعة ما لا يعلمون» (٢) ولذلك آثرنا تسميتها بالوظيفة تبعا لبعض أعلامنا الأجلاء ، ونفي الحكم الظاهري في الأصول العقلية أوضح ، إذ
__________________
(١) الاستبصار : ١ ـ ٢٦٤ ، الباب : ١٤٩ الحديث : ١٣. باختلاف يسير.
(٢) عوالي اللئالي : ١ ـ ٤٢٤ ، الحديث ١٠٩ ، باختلاف يسير.