العلل لما سبق ان قلنا : ان كل ما كانت حجيته بالغير لا بد وان ينتهي إلى ما بالذات ، وإلا لزم التسلسل.
ومع كون الأمارات أو الأصول لا تملك الحجية الذاتيّة بداهة ، فهي محتاجة إلى الانتهاء إلى ما يملكها ، وليس هناك غير القطع بجعل الحجية لها من قبل من بيده أمر وضعها ورفعها.
ولذلك اعتبرنا ان كل حجة لا تنتهي إلى القطع لا تصلح للاحتجاج بها ، وتسميتها حجة من باب التسامح في التعبير.
وأظننا ـ بهذا المقدار من العرض ـ لا نحتاج بعد إلى التماس أدلة على نفي الحجية عن كل ما هو غير قطعي بأمثال قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١). وقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢). وقوله عزوجل : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٣). وأمثالها من الآيات المرشدة إلى ذلك الحكم العقلي والمؤكدة له.
والّذي يبدو لي أن المسألة ـ بهذه الحدود ـ موضع اتفاق بين العقلاء ، فضلا عن المسلمين ، وان لم تصرح به جميع كلماتهم ، ودليل اتفاقهم أنهم عند ما يريدون ان يؤصلوا أصلا أو يكتشفوا قاعدة لا يكتفون بالعمل بمقتضى مؤداها ، بل يلتمسون لها قبل ذلك سندا قطعيا من شرع أو عقل تحقيقا للجزم بالمعذرية والمنجزية.
وربما تناقشوا في إفادة الدليل للمؤدّى ، وناقشوا بثبوت الجعل الشرعي له ، وقالوا : ان الدليل لا يفيد القطع بذلك ، مما يكشف عن أن القطع هو أساس جميع الحجج عندهم ، يقول الشاطبي ـ وهو يتحدث عن بعض الأدلة غير العلمية ـ : «ان المعنى المناسب الّذي يربط به الحكم الشرعي إذا شهد الشرع في قبوله لا
__________________
(١) سورة الإسراء : الآية ٣٦.
(٢) سورة يونس : الآية ٣٥.
(٣) سورة يونس : الآية ٥٩.