أبيها ليلا ونهارا. وكان أهلها كلما طلبته يقولون لها : هو في السفر ، وغدا يأتي ومعه ما تطلبين.
إلى أن كانت ليلة من الليالي ، فرأت أباها بنومها. فلما انتبهت صاحت وبكت وانزعجت ، وقالت : ائتوني بوالدي وقرة عيني ، فإني رأيته الساعة في المنام مضطربا شديدا. وكلما حاول أهل البيت عليهالسلام إسكاتها ازدادت حزنا وبكاء. فعظم ذلك على أهل البيت عليهالسلام ، فضجّوا بالبكاء وجددوا الأحزان ، ولطموا الخدود ، وحثوا على رأسهم التراب ، ونشروا الشعور ، وقام الصياح.
فانتبه يزيد من نومه ، وقال : ما الخبر؟. قالوا : إن بنت الحسين الصغيرة رأت أباها بنومها ، فانتبهت وهي تطلبه وتبكي وتصيح.
فلما سمع يزيد ذلك قال : ارفعوا رأس أبيها ، وحطّوه بين يديها ، لتنظر إليه وتتسلى به. فجاؤوا بالرأس الشريف إليها في طبق مغطى بمنديل ديبقي ، ووضعوه بين يديها. فقالت : ما هذا؟. إني طلبت أبي ولم أطلب الطعام!. فقال : إن هناك أباك. فرفعت المنديل ورأت رأسا ، فقالت : ما هذا الرأس؟. قالوا لها : إنه رأس أبيك. فرفعته من الطشت وضمّته إلى صدرها وهي تقول :
يا أبتاه من ذا الّذي خضّبك بدمائك؟. يا أبتاه من ذا الّذي قطع وريدك؟. يا أبتاه من ذا الّذي أيتمني على صغر سني؟. يا أبتاه من بقي بعدك نرجوه؟. يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر؟. يا أبتاه من للنساء الحاسرات؟. يا أبتاه من للأرامل المسبيّات؟. يا أبتاه من للعيون الباكيات؟. يا أبتاه من للضائعات الغريبات؟. يا أبتاه من للشعور المنشرات؟. يا أبتاه من بعدك وا خيبتنا!.
يا أبتاه من بعدك وا غربتنا!. يا أبتاه ليتني كنت لك الفدى. يا أبتاه ليتني كنت قبل هذا اليوم عميا. يا أبتاه ليتني وسّدت الثرى ، ولا أرى شيبك مخضبا بالدما.
ثم إنها وضعت فمها على فمه الشريف ، وبكت بكاء شديدا حتى غشي عليها. فلما حركوها فإذا بها قد فارقت روحها الدنيا.
فلما رأى أهل البيت عليهالسلام ما جرى ، ارتفعت أصواتهم بالبكا ، وتجدد الحزن والعزا ، ومن سمع من أهل الشام بكاءهم بكى. فلم ير في ذلك اليوم إلا باك وباكية.