أما الإنسان السويّ الخلق ، الذي قلبه مرآة تنعكس عليها أشعة الصفات الإلهية ، والذي هو مهبط الملائكة الروحانيين يأنسون به لمجانسته ومشاكلت لهم فهم دائما في حنين إليه لطهارة سره ، فبينهما نوع ارتباط ، لذا ورد في الحديث : «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب» ، فالقلب المشحون بالصفات الخبيثة هي في الواقع كلاب نابحة لا تدخلها الملائكة القادسة لأنه ليس من جنسها ولا على شاكلتها ، «إن الطيور على أشكالها تقع» ، فلا بدّ له من تطهير وتنظيف حتى يصلح لسكن الأرواح العلوية لتوحى (١) إليه بالمعارف والصور العلمية اليقينية كشدة الورع والخشوع واليقين وغيرها ، وما حصل لبعض أهل العلم من العلوم الحاصلة عن طريق الاستنتاج الفكري المحض من دون اتصاف بمكارم الأخلاق وتصقيل النفس بمعالي الآداب لا يسمّى عالما إلّا بنحو المجاز ، فإذا لم يحرّك العلم صاحبه نحو الملكات الفاضلة والأخلاق العالية بتخلية السّر من أدران الطبيعة فهو ميّت الأحياء ، أو كطبيب يداوي الناس وهو عليل ، ومن كان على نحو هذه الصفة فهو من العوام لا العلماء ، لأنّ العلم اليقيني يستتبعه الروح والنور وعدم الالتفات إلى غير الرب المعبود ، هذا قلّ ما نجده عند أهل الظاهر ، فما ظنوه يقينا إمّا تصديق مشوب بالشبهة أو اعتقاد جازم لم تحصل له نورانية وجلاء وظهور وضياء لكدورة قلوبهم الحاصلة من خبائث الصفات ، والسر في ذلك أنّ منشأ العلم ومناطه هو التجرّد ، فكلما ازدادت النفس تجرّدا ازدادت إيمانا واعتقادا ويقينا ، ولا ريب أنه ما لم ترتفع عن النفس أستار السيئات وحجب الخطيئات لا يحصل لها التجرد الذي هو مناط حقيقة اليقين ، فلا بدّ من مجاهدة العدو الداخلي بالتزكية والتجلية حتى تنفتح أبواب الهداية ، وتدخل بوارق النور إلى كعبة المعبود لذا ورد في الحديث «قلب المؤمن عرش الرحمن» ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، فجهاد النفس يتفرع عنه هداية السبيل والوغول في عالم اليقين لأنّ الجهاد في سبيله ليس منحصرا بسوح الجهاد ، فكم من عدو داخلي أخطر على الإسلام من الذين يتربصون به الكيد من خارجه ، وهكذا الإنسان المؤمن ما يزال يستهويه شيطان يضلّه وعدوّ يغريه ونفس تنازعه من الداخل وهي العدوّ وقهرها هو الجهاد الأكبر «إن أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك»،
__________________
(١) المراء بالإيحاء : الإلهام والتسديد قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى).