ثالثا : إنّ تخصيص الحاسة السادسة بالآخرة وامتناعها في الدنيا ؛ يستدعي أن تكون الأحكام العقلية في الآخرة مغايرة تماما لما كانت عليه في الدنيا ، هذه المغايرة تعتبر فصلا من دون دليل ، وذلك لأنّ القواعد العقلية لا تخصّص في دار دون دار ، فإن كان المراد من المغايرة هو كون ما في الآخرة أكمل مما في الدنيا فمما لا ريب فيه لأن الوجودات هناك أتمّ وأكمل ، أما لو كان المراد من المغايرة من حيث الماهية والواقعية فإنه غير معقول ومقبول لأنّ ما في الدنيا هو نفسه في الآخرة ولكن بشكل أكمل لا أنه يباينه على وجه الإطلاق قال تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ...).
وقال الشافعي :
«ما حجب الفجار إلّا وقد علم أنّ الأبرار يرونه عزوجل ، ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله بما دلّ عليه سياق الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) تنظر إلى الخالق وحقّ لها أن تتضرع وهي تنظر إلى الخالق ...» (١).
قال ابن كثير :
«وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة أي تراه عيانا كما رواه البخاري في صحيحه أنكم سترون ربكم عيانا» ، وقد تقدم استعراض كلامه فيما سبق فلاحظ.
وأيضا تقدم ما قاله بعض أعلام العامة في ذلك ، إضافة إلى استدلالهم ببعض النصوص الضعيفة المتشابهة التي لا يجوز العمل بظواهرها ، لا حاجة لنا بذكرها بعد دلالة العقل السليم والقرآن المجيد على امتناع الرؤية البصرية.
وجدير بنا أن نذكر كلمات العترة المنزّهين عن كل شين واستنكارهم على مسألة الرؤية الحسية منها :
عن أبي بصير عن مولانا الإمام أبي عبد الله عليهالسلام قال :
قلت له : أخبرني عن الله عزوجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟
قلت : نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة ، فقلت متى؟ قال : حين قال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ثم سكت ساعة ثم قال عليهالسلام : وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا؟
__________________
(١) تفسير ابن كثير : ج ٤ ص ٣٩٣ ط دار القلم.