لبعض من اصطفى بإذنه تعالى كما في تقسيم الملائكة إلى المدبرات للأمر والحاملات للوقر والجاريات لليسر والمقسمات والذاريات وكذا رخّص سبحانه أمر التوفي إلى بعض ملائكته (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) وكذا أناط تسجيل الأعمال ومراقبتها بيد بعض الملائكة (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ).
فكما أن الرسل من ملائكة الموت أو تسجيل الأعمال موكلين من قبله تعالى كذلك العقل موكل من قبله تعالى في كشف وتبيين الحقائق التي من جملتها مسألة حكم العقل بالقبح والحسن ، فأيّ إشكال في ذلك؟!
هذا إضافة إلى الآيات التي تأمر بالتدبر والعقل وهي في إطلاقها تعم المسائل التكوينية والتشريعية.
ثالثا : ان قول الأشعري : «ليس كل ما جاز أن يأمر به أن يوصف به» يعدّ عين القبح والسفاهة إذ كيف يأمرنا عزوجل بالإحسان ولا يتصف به أو أنه عزوجل يفعل ضده ، أليس هذا سفها يجب أن يتنزّه عنه سبحانه كما يتنزّه عنه المخلوق الحكيم؟! وقد ذمّ سبحانه أقواما (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ، وقد قال تعالى واصفا نفسه بالقول : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) كما أنه سبحانه وصف نفسه أنه غير ظالم (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ).
الدليل الثالث :
إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليّين لما اختلفا أي لما حسن القبيح ولما قبح الحسن ، فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح وذلك فيما إذا تضمن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك والصدق تضمن إهلاكه ، فلو كان الكذب قبيحا لذاته لما كان واجبا ولا حسنا عند ما استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله (١).
__________________
(١) الأحكام للآمدي : ج ١ ص ١٢١.