هذه المعاني المتعددة للفظ القضاء تجمعها حقيقة واحدة سارية في الجميع هي «اتقان العمل واستحكامه» وحيث إنّه تعالى بنى السماوات والأرض بحكمة تامة عبّر عنه ب «قضى» في قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وبما أنه سبحانه حاكم ومنه صدر الحكم الشرعي بإتقان عبّر عنه ب «القضاء والقاضي» بقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الخ ...
وأمّا القدر : فهو بفتح القاف وسكون الدال «قدر» ما يقدّره الله من القضاء في الليلة القدر.
وبفتح القاف والدال «قدر» مقدار كلّ شيء وحده.
قال الراغب الأصفهاني.
القدر والتقدير تبيين كمية الشيء ، يقال : قدرته وقدّرته.
وقدّره : أعطاه القدرة ... فتقدير الله الأشياء على وجهين :
أحدهما : بإعطاء القدرة.
الثاني : بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة. وذلك أنّ فعل الله تعالى ضربان :
ضرب أوجده بالفعل ، ومعنى إيجاده بالفعل أن أبدعه كاملا دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يفنيه أو يبدّله كالسماوات وما فيها. ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءه بالقوة وقدّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدّره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون التفاح والزيتون ، وتقدير منيّ الإنسان أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات.
وضرب بإعطاء القدرة عليه ومنه قوله : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (١).
وقد أشار القرآن إلى حقيقة القدر هذه بقوله تعالى :
(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي أنه سبحانه تعالى قدّر المخلوقات بمقادير معيّنة بعلمه تعالى ثم خلقها وهداها إلى غاياتها.
والقضاء والقدر متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، وأحدهما أسبق من الآخر ، فالقدر متقدم على القضاء ، لأنّ القدر بمثابة الهندسة ووضع الحدود
__________________
(١) المفردات : ص ٣٩٥ بتصرّف.