التقدير متقدما على القضاء ، فصانع الطاولة يهيئ لمصنوعه قطع الخشب والأدوات المعدّة لصنعها ثم تركّب هذه القطع مع بعضها البعض فيصل إلى حدّ القضاء فتكون طاولة جاهزة للاستعمال.
إشكال :
قد يقال : إنّ تقدّم القدر على القضاء يعني عدم إمكان تصور الثاني بدون الأول أو عدم تحقق الثاني دون سبق الأول؟
وجوابه :
إنه في أغلب الأحيان لا يكون قضاء من دون سبق قدر لقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (القمر / ٥٠) (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق / ٤).
وحيث إن التقدير والقضاء من شعب الخلقة فلا يوجد شيء في صفحة الوجود إلّا بهما كما أشار إلى ذلك مولى المؤمنين أبو عبد الله عليهالسلام : «إنّ القضاء والقدر خلقان من خلق الله ، والله يزيد في الخلق ما يشاء» (١).
وعليه يكون القضاء والقدر من صات الفعل الإلهي باعتبار تعلقهما بالموجودات الإمكانية ، لأنّ وجودهما من أجل الخلقة لا من أجل شيء آخر ، وقبل التعلق هما من لوازم العلم الذاتي التي تتصف به الذات المقدّسة.
وبما أسلفنا يتبيّن أن القضاء متأخر عن القدر لأنّ إنجاز جميع التقديرات المختلفة لا يمكن بعد تنافيها ، فالواقع منها ليس إلّا واحدا بحسب تعيّنه وفقا للشرائط والأسباب ، وهو القضاء فمرتبة القضاء بعد مرتبة التقدير ومسبوق به. هذا كله بالنسبة إلى المعنى الحقيقي فيهما ، ولكن قد يطلق القضاء بمعنى القدر ، والقدر بمعنى القضاء أو كليهما ، وبهذا المعنى لا مانع من تقسيم القضاء إلى الحتم وغير الحتم ، ولعلّه من هذا الباب ما روي عن ابن نباتة قال : «ان أمير المؤمنين عليهالسلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر ، فقيل له : يا أمير المؤمنين : تفر من قضاء الله؟ قال : أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزوجل» (٢).
فالقضاء والقدر إذا كان علميين (بمعنى أنه تعالى قدّر الأشياء قبل خلقتها
__________________
(١) التوحيد : ص ٣٦٤ ح ١ باب القضاء والقدر.
(٢) تفسير الميزان : ج ١٣ ص ٧٨.