تسابق للحصول عليها العرفاء الكبار بعد قطعهم لمراحل السلوك والسير إليه تعالى بالأسفار المعنوية الأربعة المقرونة بالإخلاص إلى المبدأ الفيّاض.
ومن مراتب هذه المعرفة هناك «المعرفة الفطرية». الكامنة بداخل الكيان الإنساني بدون استثناء وقد وردت في القرآن المجيد مرارا (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (الروم / ٣١) والمعرفة الفطرية المركوزة في الخلقة الإنسانية لا تحتاج إلى تعلم وتعليم لأنها تولد مع الإنسان كما ورد في الحديث : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه ...» (١).
وأما المعرفة الحضورية فلا تقبل الخطأ ، والسر في ذلك أن نفس الواقع العيني الحاصل في هذين الموردين (الحضوري والفطري) يكون واضح الشهود بخلاف موارد العلم الحصولي حيث إن المفاهيم والصور الذهنية تؤدي فيها دور الواسطة وقد لا تتطابق بشكل كامل مع الأشخاص والأشياء الخارجية.
لكن لا يعني هذا الاستغناء عن العلم الحصولي فإنه لولاه لما أمكن اشتداد العلم الحضوري لدى الفرد ، لأن المعرفة الحصولية مرافقة دائما للحضوري فمثلا عند ما تصاب بحالة خوف فإن ذهننا يلتقط صورة لحالة الخوف هذه بحيث يستطيع أن يستعيدها بعد انتهائها كما أنه يدرك المفهوم الكلي للخوف ويضم إليه مفاهيم أخرى ويخرجها بصورة جملة معينة «كأنا خائف» أو «لدي خوف» وبسرعة غريبة أيضا يفسّر طروء هذه الحالة النفسية على أساس معلوماته السابقة ويعيّن علة ظهورها.
إنّ كلّ هذه الأفعال والانفعالات الذهنية التي تتمّ بسرعة فائقة هي غير إدراك حالة الخوف والعلم الحضوري به.
والمعرفة الحضورية الحاصلة عند بعض الأفراد لا تكفي لأن تكون مقياسا يمكن بواسطته إقامة الحجة عند الخصم ، إذ ما يراه العارف بالشهود يحتاج إلى ما يصدّقه برهانا واستدلالا ، عدا عن إقامة البرهان لمن لا يعتقد بما اعتقد به أهل الحضور والشهود.
إلى هنا انتهينا من بيان ما يتفرّع على المعرفة التي بحث فيها الشيخ المظفر (قدسسره) بشكل مجمل ، وقد أراد من المعرفة القسم الأول منها أي المعرفة الحصولية.
__________________
(١) بحار الأنوار : ج ٣ / ٢٨١ ح ٢٢.