رأي جديد مستحيل عليه تعالى لأنه على هذا القول يعني أن المشرّع عند ما بدّل رأيه السابق إلى رأي جديد ينتج عنه ظهور خطأ أو نقص في تشريعه السابق عثر عليه متأخرا فأبدل رأيه إلى تشريع آخر ناسخ للأول.
هذا المعنى للنسخ إنما يختص ويقتصر على المشرعين القانونيين الآدميين ولا يشمل ربّ العالمين الذي كله علم وقدرة ولطف وحكمة ، فطبيعة الآدمي الناقص أن يتبدل رأيه لعدم إحاطته بالمصالح والمفاسد الكامنة وراء الأمور ، كل ذلك يستدعي أن تتبدل معلوماته بين الحين والآخر وهذا بخلاف الباري العليم الحكيم المحيط بالسرائر والضمائر والظواهر والبواطن ، فلديه سبحانه إحاطة تامة حضورية بالواقعيات في طول الزمن وعرضه على حد سواء ، فمثل هذا يمتنع عليه الخطأ لأنّ وقوعه في حقه تعالى دليل نقص وعجز وهو منزّه عنهما.
إذن النسخ المنسوب إليه تعالى نسخ في ظاهره ، أما الواقع فلا نسخ فيه أصلا ، وإنما هو حكم مؤقت وتشريع محدود من أول الأمر ، وأنه تعالى لم يشرّعه حين شرّعه إلا وهو يعلم أن له أمدا ينتهي إليه ، وإنما المصلحة الواقعية اقتضت هذا التشريع المؤقت وقد شرّعه تعالى وفق تلك المصلحة المحدودة من أول الأمر.
من هنا نعرف سرّ علاقة النسخ بالبداء فإنه لا فرق بينهما سوى أن الأول خاص بالتشريع والثاني خاص بالتكوين ، فالنسخ والبداء بمعناهما الباطل أعني تبدّل الرأي أو نشأة رأي جديد ممتنع بالقياس إلى علمه الأزلي ، وأما بمعناهما الثاني الصحيح وهو إخفاء الأمر على المكلفين اختبارا وامتحانا ومصلحة لهم ولطفا بهم ورحمة ، هذا المفهوم لا غبار عليه في الشريعة المقدّسة وضرورة العقل ، إذ إنه ظهور شيء بعد خفائه على الناس ، حيث يتميز النسخ عن البداء ، ان النسخ عبارة عن ظهور أمد حكم كان معلوما عنده تعالى خافيا على الناس ، والبداء ظهور أمر أو أجل من حياة كائن أو موته وما إلى ذلك كان محتّما عنده تعالى بعلمه الذاتي ولكنه كان خافيا على الناس ثم بدا لهم أي ظهرت لهم الحقيقة بعد خفائها عليهم.
ويفترق النسخ عن البداء ؛ أن النسخ شامل للأحكام التشريعية التقنينية من دون استثناء إذا اقتضت المصلحة ذلك أما البداء فلا يشمل المحتوم وما في اللوح المحفوظ.