وبعض الناس من يكمل في سن الأربعين ، فإذا بلغه كمل عقله وازداد كمالا إلى أن يبلغ الخمسين أو الستين ، وذلك باختلاف الأفراد ، وإذا انحدر عن الستين وضعفت البنية وعجزت الطبيعة عن تحليل الرطوبات ، غلبت الرطوبات في رأسه وحجبت ظهور العقل فشرع في النقصان بحيث يبلغ مبلغا لا يعلم بعد علم شيئا فلا يميّز بين الأشياء ولا يعرف الأوقات والأشخاص إلى أن يغلب عليه البرد فتنطفئ حرارته ويموت ، وهذا الاختلاف في كل هذه الحالات في البدن ، والعقل باق على ما كان أول مرة فوق البدن لا يتفاوت كما إذا كانت الشمس ظاهرة ووضع تحتها جسم كثيف فصقّلته إلى أن صار مرآة صافية ثم غلب عليها الصدأ إلى أن حجبت الشمس بالكليّة ؛ فالشمس دائما على حالها ، وإنما حصل الاختلاف في المرآة المصدئة فلم تعد تحكي نور الشمس ، فلأجل ذلك يزداد العقل بتعديل البدن ، بالآداب الشرعية وتصفيته بالرياضات والمجاهدات المأمور بها شرعا إلى أن يصل إلى حالة كتبت له ، فمن ذلك يعلم أن العقل في مقامه على ما هو عليه ، وإنما الاختلاف في الظهور والخفاء وكمال الظهور ونقصانه.
ويعلم مما مرّ أنّ لكلّ امرئ ما ظهر فيه من العقل الجزئي المقتبس من العقل الكلي الذي لا يختص بأحد دون أحد إلّا بحسب سيره نحوه ، والمقصود من العقل الكلي نبي الرحمة محمّد بن عبد الله وعترته الطاهرة المطهّرة ، وسائر الناس لهم منهم عليهمالسلام ما ظهر فيهم من الكمال المحمدي ، كما أنّ النار الكلّية في محلها ، وما للشعلة المخصوصة منها ما ظهر فيها وما اشتعلت به ؛ فكذلك عقل زيد هو ما ظهر فيه من نور العقل وانصبغ فيه وتخصّص به ، وهو يتفاوت بحسب أعماله وأحواله.
ومن هنا قيل : إن العقل عبارة عن قوة يعرف بها الحق كما في قوله تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (الزمر / ١٩).
حيث يستفاد من الآية المباركة أن العقل به يهتدى إلى الحق المطلق والإعراض عن العقل سفه نزّه الباري عزوجل أتباع دينه عنه بقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة / ١٣١) حيث عدّ المولى عزّ ذكره الإعراض عن ملّة إبراهيم من حماقة النفس وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرّها ، ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث : أن «العقل ما عبد به