الذات بصورة نورانية وكذا العكس ، ألا ترى أن كثرة مجاورة النار وتكرر التسخينات توجب للحطب وغيره صورة نارية تفعل فعلها ، وكذا كثرة مجاورة الأرض يجعل الشيء ترابا صرفا يفعل فعل التراب ، وهكذا فلا عجب من نفس حصل فيها إشراق لكثرة التشبهات بالمبادئ الإلهية والأفعال الربانية.
وهذه المرتبة هي آخر الدرجات في الفناء عن الذات ، فهي منتهى المقصود وليس وراء عبادان قرية.
واعلم أن العقل خلق قبل البدن والأجسام ، والمراد بالقبلية هنا القبلية الرتبية ، فالمعنى أن العقل مخلوق فوق البدن والأجسام قائم فوقها وهو أقرب إلى المبدأ من البدن ، وكل فيض يصل إلى البدن يصل إلى العقل أولا ثمّ إلى البدن ، وبالعقل قوامه وتدبيره ، وقد خلقه تعالى حين خلقه وأمره بالإقبال (كما ورد في الأخبار الصحاح) لقبول الإيجاد ثم أمره بالإدبار فنزل إلى الجسد ولم يكن تنزّله بتخلية مكانه بل بظهور فعله وتدبيره في البدن كما تنزل الشمس إلى المرآة ، فكلما كان البدن أعدل وأصفى يحكي نوره أحسن وأضوأ ، وكلما كان منحرفا عن الاعتدال كدرا ذا كثافة كلما كان الظهور أكثر اعوجاجا وأشدّ فسادا إلى أن يبلغ انحرافه وكدورته مبلغا لا يظهر عليه نور العقل تماما كالنطفة في الرحم فلشدة رطوبتها ولزوجتها وعدم اعتدالها مما يحجب نور العقل عنها ، وهكذا كلما صعدت النطفة بحسب استعدادها شيئا فشيئا فاعتدلت وتصفت فإنه يظهر عليها آثار العقل رويدا رويدا ، فيظهر فيها النمو أولا ثم تترقى حتى تظهر فيها الحياة الإنسانية إلى أن يخرج إلى خارج الأرحام فيترقى بحيث تظهر فيه آثار النمو والترقي بواسطة الأفلاك وتربية أرباب العقول والألباب إلى ما شاء الله حتى يبلغ الحلم فظهر فيه العقل لذا ورد «ثلاثة مرفوع عنهم القلم : المجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ والصبي حتى يحتلم» ، وكلما تصفّى وكثر اعتداله وصفاؤه ونضجه قوى الظهور شيئا فشيئا إلى أن يبلغ خمسا وثلاثين كما في حديث عن مولى الموحّدين علي بن أبي طالب عليهالسلام : «يرفّ الصبي سبعا ويؤدّب سبعا ويستخدم سبعا ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة ، وعقله في خمس وثلاثين وما كان بعد ذلك فبالتجارب» (١).
__________________
(١) وسائل الشيعة ج ٧ / ١٩٥ ح ٥ باب النكاح.