وهذا العلم لا بدّ أن يكون قطعيا ويقينيا حيث يمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصية والخطأ ويمنعه عن الضلال تماما كسائر الأخلاق التي تبحث عن العفة والشجاعة والإيثار الخ. حيث إن لكل واحدة صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها ، مانعة عن التلبّس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل الخ ...
وهذا العلم ـ كما قلنا ـ شعور يقيني غير مغلوب البتة ، وليس من قبيل الشعور والإدراك الظنيين ، ولو كان كذلك لتسرّب إليه التخلف ، فهو من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب والتعلّم.
فالعلم اليقيني بعواقب ومثالب الأعمال الخطيرة يخلق في نفس الإنسان وازعا قويا يصدّه عن ارتكابها ، وأمثاله في حياتنا كثير ، كما لو وقف أحد على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل من يمسها فإنه يحجم من تلقاء نفسه عن مسّ تلك الأسلاك والاقتراب منها ، تماما كمن يعلم أن النار تحرق فلا يمكنه أن يضع نفسه في النار لعلمه القطعي أنه لو فعل لاحترق ، ونظير هذا في وقتنا الحاضر لو أن إنسانا يعلم أنّ المرأة التي أحبها حبّا جمّا مصابة بمرض السيدا فإنه لا يقربها خوفا من الإصابة والعدوى.
وهكذا يقاس عليه سائر العواقب الخطيرة ، فإذا كان العلم اليقيني القطعي بالعواقب الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك المصونية المانعة من ارتكاب الخطأ في نفس العالم بها ، فكيف بالعلم القطعي بالعواقب الأخروية للمعاصي ورذائل الأفعال ، علما لا يداخله ريب ولا يعتريه شكّ بحيث تسقط دونه الحجب فيرى صاحبه رأي العين تبعات المعاصي ولوازمها وآثارها في النشأة الأخرى وهو العلم الذي عبّر عنه تعالى بقوله :
(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٦) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٧)) (التكاثر / ٦ ـ ٧).
فمثل هذا العلم يجعل من صاحبه إنسانا مثاليا لا يخالف قول ربّه قيد أنملة ، فهو إضافة إلى أنه لا يرتكب معصية بتاتا فإنه لا يفكر بها على الإطلاق ، فأمثال هذا مصداق قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب روحي فداه واصفا المتقين :
«هم والجنّة كمن رآها فهم فيها منعّمون» حيث إن هؤلاء يمتلكون عيونا برزخية يرون بها عوالم الملكوت في حين أن غيرهم يغطّ في سبات عميق في عوالم المادة وحجب الظلمة.