وكيف كان ، فإنّ الظاهر من الآية الشريفة أنّهم اقترحوا من عند أنفسهم ـ جزافا وجحودا للحقّ ومن غير خضوع للحقيقة ـ إنزال كتاب من عند الله تعالى ، وكانوا يريدون من ذلك تشويه الأمر على المؤمنين الّذين آمنوا بالرسول صلىاللهعليهوآله وقلب الحقيقة عليهم وسلب الطمأنينة من نفوسهم ؛ لأنّهم طالما كانوا يواجهون المؤمنين بمثل هذه المقترحات الباطلة لتضعيف الإيمان في قلوبهم ، وإلّا فإنّهم كانوا يعلمون أنّ القرآن نزل مع التحدّي وعرفوا عجز الناس عن معارضته وتحديه ، وهذا شأن كلّ متمرّد على الحقّ ، ومن تعوّد الجحود والكفر.
ولا يبقى بعد ذلك وجه للنزاع في أنّ المقترح هل هو كتاب خاصّ أو عامّ أو نحو ذلك ، بعد ما كان المناط هو معرفة نواياهم الخبيثة وكيدهم بالمؤمنين وجحودهم.
ولقد شابهوا المشركين في هذا المقترح الباطل المعاند للحقّ الّذي صدر منهم في ابتداء الدعوة كما حكى عنهم عزوجل فقال : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [سورة يونس ، الآية : ٢٠] وقال تعالى : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [سورة الإسراء ، الآية : ٩٣].
ثم إنّ المفسّرين ذكروا أنّ اليهود كانوا يغشّون المؤمنين ويغرّونهم بإنزال التوراة عليهم جملة واحدة ، وأنّ شريعة موسى عليهالسلام قد نزلت دفعة واحدة وكذلك الإنجيل ، فلم لم يكن القرآن كذلك وعلى خلاف تلك الكتب الإلهيّة ، وأرادوا من ذلك تضعيف الإيمان في قلوبهم وإثبات الشكّ في نفوسهم.
ولكن الّذي يظهر من القرآن الكريم وبعض الفقرات في التوراة خلاف ذلك ، فإنّ التوراة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنّ النازل كذلك هو الوصايا العشر الّتي نقشت في الألواح ، فأتى بها موسى عليهالسلام الى قومه ، ولما رأى عبادة العجل ألقى الألواح كما حكى عنه عزوجل في القرآن الكريم ، وأمّا شريعته عليهالسلام فإنّها نزلت متفرّقة وعلى سبيل التدرج ولم تنزل مكتوبة جملة واحدة ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في كيفيّة نزول الكتب الإلهيّة إن شاء الله تعالى.