ابن مريم الّذي يعدّ معجزة إلهية في خلقه وحياته ورفعه إلى السماء ، فقد خلقه عزوجل من غير أب وأسباب عادية الّتي لا بدّ من توفرها في سائر أفراد الحيوان ، فتعلّقت الإرادة الأزليّة أن يخلقه بكلمة (كن) التكوينيّة من غير سبب مادي عادي تعلّقت بمريم العذراء ، فولد منها فكان محتاجا إليها حين الحمل والولادة والرضاعة والتربية ، ثمّ خصّه بالفيض واصطفاه بالرسالة ، فكان رسولا مبلغا عن الله تعالى محتاجا إليه في الفيض وسائر شؤونه ، وكان هذا الاصطفاء سببا في زيادة تعلّقه عليهالسلام بخالقه العظيم ، فصار عبدا من عباده المخلصين الّذين عرفوا معنى العبوديّة وأدّوا لوازمها وحقوقها فلم يتخطّوا عن تلك ، وإلّا خرجوا عن مورد الفيض وهبطوا عن ذلك المقام السامي ، فقال تعالى فيه : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٦] ، فهو عبد الله تعالى اصطفاه وجعله مورد الإفاضة بخلقه من غير أب كما اصطفاه بالرسالة ، فلم يكن له أن يقول ما ليس له فيه حقّ ، فلم يدع الألوهيّة لنفسه ولا لامه الطاهرة الّتي هي مثله في الخلق والعبوديّة ، وإلّا خرج عن مورد الاصطفاء ولم يف بحقوق العبوديّة ، وهذا هو السبب في تعظيم شأن عيسى ابن مريم في القرآن الكريم.
والآيات الشريفة المتقدّمة تضمّنت أمورا عديدة تدلّ على نفي كلّ ما يدّعي فيه من الألوهيّة وحلول الباري عزوجل فيه وأنّه ولد الله تعالى ، وغير ذلك ممّا يدّعيه النصارى في حقّ هذا النبي العظيم ، فيخرجونه بها من حدود الإنسانيّة ويجعلونه في مصاف الألوهيّة ، فهي الّتي يبطلها القرآن الكريم بوجوه عديدة.
منها : أنّه مخلوق مبارك لم يكن قديما اختصّ بالفيض فصار خلقه معجزة إلهيّة كما عرفت في التفسير ، والإله لا يعقل أن يكون مخلوقا حادثا كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة.
ومنها : أنّه محدود ، فإنّه منسوب إلى امرأة طاهرة هي امه ، فهو محتاج إليها