من أوّل البعثة ؛ لاعتقادهم أنّ الدولة ستكون للكافرين ، ولمّا يستحكم الإيمان في قلوبهم ، ويدلّ على أنّ هؤلاء المنافقين هم المراد من الآية الشريفة ذيلها ، حيث وصف تعالى حالهم في النفاق (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) ، فإنّه عزوجل أثبت لهم شيئا من ذكر الله تعالى ، وهذا لا ينافي حال المنافقين الّذين لم يؤمنوا بقلوبهم أبدا ، فإنّ له سبحانه وتعالى كلاما معهم في موضع آخر ، وكانوا أشدّ خطرا على الإسلام من سائر الفرق كما ستعرف ، كما لا ينافي شمول قوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) لجميع أصناف المنافقين ، فإنّ لهم عذابا أليما وإن اختلفوا في كيفيّته.
ومن ذلك تعرف أنّه لا وجه لإنكار وجود مثل هؤلاء في وقت نزول هذه الآية الشريفة الّتي نزلت بمكّة المكرّمة ، بدعوى أنّ الخطاب إنّما توجّه الى المؤمنين لا المنافقين ونهيهم عن مجالسة الكافرين والمستهزئين ؛ لأنّ نجم النفاق إنّما ظهر بالمدينة ، وأنّ النفاق الّذي ظهر في المدينة إنّما كان مرتبة اخرى غير الّتي كانت بمكّة ، والنهي إنّما توجّه لهؤلاء المؤمنين الّذين وصفهم عزوجل بالنفاق لمجالستهم الكافرين والمستهزئين بالمؤمنين ؛ لضعف إيمانهم واعتقادهم بأنّ الدولة أو الحكومة ستظهر فيهم فتكون لهم يد عندهم ، فكان هؤلاء المنافقون غيرهم الّذين ظهروا في المدينة.
وإنّما كانت موالاة الكافرين نفاقا ؛ لأنّ الحضور في مجالسهم يستلزم التخلّق بأخلاقهم وتصديق بعض ما يعتقدونه وما يتذاكرونه ممّا لا يرتضيه الله تعالى ، فنسبته الى الدين ثم الرضا بأفعالهم وأعمالهم هو الكفر ؛ لأنّ فيه انفصالا عن مجتمع المؤمنين وتجاوزا عن ولايتهم وإعراضا عن الدين ، فلو حضر مجالس المؤمنين واشترك معهم في شيء من شعائر الدين وذكر الله تعالى قليلا ، لقرع سمعه آيات الله وأحكامه دون الوصول الى قلبه حتّى يعرض عن الكافرين ، وهكذا إذا أعادوا الكرّة مع الكافرين فإنّه يوجب الازدياد في الكفر ، فصار له وجهان ، وجه مع