فأعيانهم في هذه الدنيا مشهودة وأرواحهم عنها مخلوعة ، وهي تسير في أفلاك العظمة (بل تصاحب بعضها الأرواح القدسيّة والملائكة البررة) ، وهي تيقّنت بعد المشاهدة بتوحيد الذات والفعل ، وتهلّلت عن إخلاص بعد ما ظهرت الحقيقة ، وسبّحت بعد ما رأت العجائب في الخلق وفي النفس ، وحمدت بعد ما أفاض الله تعالى عليها من النّعم ، فهم للحقّ واجدون وللخلق مشاهدون ، فبارك الله تعالى في عمرهم ، وتجلّى على قلوبهم ، لأنّهم ساروا على نهج محمد صلىاللهعليهوآله واقتدوا بخلفائه المعصومين عليهمالسلام ، ونبذوا الدنيا لأهلها ، وتوكّلوا على خالقهم في الأشياء كلّها ، وفي الآنات جميعها ؛ وتواضعوا للعلم والحقيقة ، فاكتسبوا أيضا من الخلائق الّتي خضعت لخالقها وأشرقت بكلمة (كُنْ فَيَكُونُ) أسمى صفاتها ، وأعرضوا عن ذمامها وعلّموا غيرهم بمختلف درجاتهم وطبقاتهم ، وتحمّلوا عناء التعلّم من الّذين لم ينالوا شرف العزّ والعرفان إلّا لأجل سعادتهم ، تقرّبا لوجهه الكريم وبثّا لما أنعم من الفضائل عليهم بإذن منه جلّ شأنه ؛ ولذا عطف عزوجل على الطيّبات (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) ، أي : كاسبة لها لياقة الكسب والخروج عن ظلمات الجهل ، (مُكَلِّبِينَ) مسلّطين على مخالفة الهوى ، مشدّدين على هداية الناس (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) ترشدون الفئة الضالّة الى طرق التوحيد ، وتأدبونهن بآداب الشريعة الّتي فيها السعادة وارتياح النفس ممّا ألهمكم الله تعالى ؛ لأنّ العلم إمّا إلهام رباني أو مكتسب عقلائي ، فهما منحة منه جلّ شأنه (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) بالتوجّه واستيعاب الضمير بأخذ العبرة والدلالة في عجائب خليقته ، وبما منح الله من الألطاف المنتشرة على ما سواه ، (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) فتوجّهوا إليه لأنّه أخرجكم من ظلمات الجهل الى نور العلم ، ورزقكم من أنواع الطيّبات ، وباسمه أشرقت الكائنات وتجلّت ، فلا اسم أشرف وأعزّ وأكرم من اسمه ، فهو السموّ الواقعي المنحصر به ، وهو اللائق بالذكر على جميع الأشياء دون غيره ، وبه تنكشف المهمات ، وتقضي الحاجات ، وبه يدخل المؤمن الجنّة ، وبنسيانه يدخل المنافق النار ، (وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع الشؤون وتمام الحالات ؛ لأنّها السبيل الوحيد لنيل السعادة