هذا القلب ، فيذهب الله ذلك بما في الماء المنزل من الحياة العلمية بالبراهين والكشف ، فإذا زال ذلك القذر الشبهي بهذا المنزل من عند الله ، زال الوسخ الجهلي وارتفع الغطاء عن القلب ، فنظر بعينه في ملكوت السموات والأرض ، وذلك بما أعطاه العلم المنزل الذي طهره به في ذلك الماء ، الذي جعل نزوله في الظاهر علامة على فعله في الباطن ، فكان من مواطنه مقابلة الأعداء ، فأداه ما عاينه وربط قلبه به أن تثبت قدمه يوم الزحف عند لقاء الأعداء ، فما ولوا مدبرين ، وأنزل الله نصره وهو تثبيت الأقدام ، فهذا ما أعطاه الله في الماء من القوة ، حيث أنزله منزلة الملائكة بل أتم من الملائكة ، وإنما قلنا بل أتم ، فإن الله جعل الماء سبب تثبيت الأقدام فأنزله منزلة المعين على ما يريد.
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (١٢)
قال تعالى ذلك للملائكة لما علم من ضعفهم ، أعلمهم أن الله معهم من حيث إنيته ، ليتقوى جأشهم فيما يلقونه في قلوب المؤمنين المجاهدين ، أن يثبتوا ويصابروا العدو ولا ينهزموا ، وهذه من لمات الملائكة ، فقال لهم : (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي اجعلوا في قلوبهم أن يثبتوا ، ثم أعانهم فقال : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أخبرهم بذلك ليلقوا في نفوس المجاهدين هذا الكلام ، فإنه من الوحي ، فيجد المجاهد في نفسه ذلك الإلقاء ، وهو وحي الملك في لمته ، وهذه الملائكة التي تقوي قلوب المجاهدين وتثبتهم وتوحي إليهم قوله : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) هم الملائكة الذي يدخلون البيت المعمور الذي في السماء السابعة المخلوقون من قطرات ماء نهر الحياة ، في انتفاض الروح الأمين من انغماسه ، ولهذا قرن الملائكة بالمجاهدين في التثبيت مع الماء المنزل (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) فانظر كم بين مرتبة الماء ومرتبة هؤلاء الملائكة ، وقد أبان الله في هذه عن مرتبة الماء من مراتب الملائكة ، ليعقلها العالمون من عباد الله ، فجعل الله من الماء كل شيء حي.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٣)