الآخرة ، لأن الثاني ترشح عن الأول أي أن لقاءه (١) سبحانه يوم الآخرة مترتب على لزوم العمل بالأوامر الإلهية في الدنيا.
وسبب غفلة الإنسان عن المبدأ هو غفلته عن ذاته ونسيانه لها ، فمن أهمل نفسه بوضعها في غير الموضع الذي شرّعه الله تعالى لها ، ولم يتفكر في أصل خلقته من أين وإلى أين؟ ولم يراع أحكام الإسلام التي هي نور الحياة ، لا يمكن لهكذا فرد أن يحصل على المعرفة المطلوبة ، لأنّ من نسي خلقه نسي آخرته ، والعكس هو الصحيح ، لوجود التلازم بين معرفة النفس والمعاد ، ولوجود تلازم إنكاري بين نسيان النفس ونسيان المعاد ، مما يؤدي إلى عدم معرفته لطريق الحياة فيتخبط يمينا وشمالا فيقع في المهالك فيحرم من فيضه تعالى مما يعني الخسران والهلاك ، المعبّر عنهما بنسيان الله تعالى لعبده بقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الحشر / ٢٠) ومعنى نسيانه لعبده تركه له وعدم نظره تعالى إليه يوم اللقاء بالرحمة والفيض وإلّا فهو عزوجل لا ينسى ما دام العبد مرتبطا بجنابه (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم / ٦٥).
لأنّ الشهود المحض لا يلحقه الغفلة والنسيان ، لأن ذاته المقدّسة كلها علم وقدرة فلا يطرأ عليها شيء من السلوب المادية ؛ لأن النسيان هو زوال صورة العلم المستحيلة عليه تعالى لأنه يستلزم الجهل وهو منزّه عنه سبحانه.
إذن «نسيانه تعالى لعبيده» تركهم في غمراتهم يعمهون ، لأنهم لم يستجيبوا لله وللرسالة وإنما استجابوا لرغباتهم ومشتهياتهم (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال / ٢٥).
فأوامر الرسول ألطاف إلهية لإحياء النفوس القابلة التي لم تطفأ جذوتها (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) (يس / ٧١).
لأنّ الفطرة السليمة هي الدعاء لتقبّل الفيض الأقدس على لسان المنذرين والربانيين ، أما المنحرفون الذين طمست فطرتهم وأصغوا إلى كلام إبليس وجنوده فإنه تعالى بعيد عنهم لأنهم سدّوا نوافذ قلوبهم عن نيل الرضوان وفيض الرحمن وإلّا فجوده مبسوط ، والبخل من جهة العبيد لضيق القابليات (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
__________________
(١) المراد من «اللقاء» : اللقاء الروحي والقرب المعنوي لا الحسي فإنه منزّه عنه تعالى.