أقول : الرواية ـ مع قطع النظر عن السند ـ من باب الجري والتطبيق لما ورد من الاختلاف في شأن النزول.
وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) قال : كان المشركون يحجّون البيت الحرام ويهدون الهدايا ، ويعظّمون حرمة المشاعر ، وينحرون في حجّهم ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فقال الله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ، وفي قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) يعني : لا تستحلّوا قتالا فيه ، وفي قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) يعني : من توجّه قبل البيت ، فكان المؤمنون والمشركون يحجّون البيت جمعا ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحجّ البيت ، أو يتعرّضوا له من مؤمن أو كافر ، ثمّ أنزل الله بعد هذا : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا).
أقول : تقدّم منّا مكرّرا أنّ شأن النزول في الآيات الشريفة لا يصير سببا للتخصيص ولا يجدي نفعا ولا ضررا ؛ لما تضمّنته الآيات الكريمة من المعارف والأحكام ، ومكارم الأخلاق ، والكلّيات الّتي لها مصاديق كثيرة في مرّ الزمن ، وأنّ الآية المباركة في مقام بيان قاعدة أخلاقيّة ودستور إلهي.
على أنّ ما ورد عن ابن عباس لا يصحّ أن يصير سببا لنزول الآيات الكريمة المذكورة ؛ لما تسالموا عليه أكثر المفسّرين من أنّ سورة المائدة نزلت في حجّة الوداع ، وقد سبقتها سورة البراءة في النزول ، فيكون قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) بعد قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) ، وكذا بعد قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، فلا مجال عليهم إلّا أن نقول بالنسخ ، فيكون قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) منسوخا بما ورد في سورة المائدة ناسخة غير منسوخة ، فيدلّ على ما ذكرنا ، وتقدّم أنّ الآية الكريمة هي على إطلاقها وعمومها فلا تنافي عدم دخول المشركين الى الحرم الإلهي ، وأنّها في مقام المنع والردع عن التعرّض لحرمات الله تعالى من المشركين وغيرهم.