عليه ، فلو كان هو بعينه لقال (ثم ينشره) فكان قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) هو قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) وقوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا) وقد علمنا أن النشأة الأولى أوجدها الله على غير مثال سبق ، فهكذا النشأة الآخرة يوجدها الله تعالى على غير مثال سبق ، مع كونها محسوسة بلا شك ، وقد ذكر صلىاللهعليهوسلم في صفة نشأة أهل الجنة والنار ما يخالف ما هي عليه هذه النشأة الدنيا ، فعلمنا أن ذلك راجع إلى عدم مثال سابق ينشئها عليه ، وهو أعظم في القدرة ، فينشىء الله النشأة الأخرى على عجب الذنب الذي يبقى من هذه النشأة الدنيا ، وهو أصلها ، فعليه تركيب النشأة الآخرة ، وهو لا يبلى ولا يقبل البلى ، فإذا أنشأ الله النشأة الآخرة وسواها وعدلها ، ينفخ إسرافيل نفخة واحدة ، فتمر تلك النفخة على الصور البرزخية فتطفئها ، وتمر النفخة التالية وهي الأخرى إلى الصور المستعدة للاشتعال وهي النشأة الأخرى فتشتعل بأرواحها ، فإذا هم قيام ينظرون ، فتقوم الصور أحياء ناطقة بما ينطقها الله به ، فمن ناطق بالحمد لله ، ومن ناطق يقول : من بعثنا من مرقدنا؟ ومن ناطق يقول : سبحان من أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ، وكل ناطق ينطق بحسب علمه وما كان عليه ، ونسي حاله في البرزخ ، ويتخيل أن ذلك الذي كان فيه منام ، كما تخيله المستيقظ ، وقد كان حين مات وانتقل إلى البرزخ كأن المستيقظ هناك وأن الحياة الدنيا كانت له كالمنام ، وفي الآخرة يعتقد في أمر الدنيا والبرزخ أنه منام في منام ، وأن اليقظة الصحيحة هي التي هو عليها في الدار الآخرة ، وهي يقظة لا نوم فيها ، ولا نوم بعدها لأهل السعادة ، لكن لأهل النار وفيها راحتهم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا] فالدنيا بالنسبة إلى البرزخ نوم ومنام ، فإن البرزخ أقرب إلى الأمر الحق ، فهو أولى باليقظة ، والبرزخ بالنظر إلى النشأة الأخرى يوم القيامة منام ، واعلم أن الإنسان مقلوب النشأة ، فآخرته في باطنه ودنياه في ظاهره ، ففي نشأة الآخرة باطنه في الدنيا صورة ظاهره في النشأة الآخرة وظاهره في الدنيا باطنه في النشأة الآخرة ، لهذا جاء (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) فالآخرة مقلوب نشأة الدنيا ، والدنيا مقلوب نشأة الآخرة ، والإنسان هو الإنسان عينه ، فاجهد أن تكون خواطرك هنا محمودة شرعا ، فتجمل صورتك في الآخرة وبالعكس ، فلا يعلم (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) إلا من علم (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) وهو عودة الحق إلى الخلق وإن اختلفت الصور ، ففيه إثبات الغير ، فإثبات الإعادة