(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) وقد كان إبراهيم في حق أبيه أواها حليما ، لا الآن ، وقد ورد في الخبر أن إبراهيم يجد أباه بين رجليه في صورة ذيخ ، فيأخذه بيده فيرمي به في النار ، فانظر ما أثر عند الخليل إيثاره لجناب الحق من عداوة أبيه في الله تعالى ، فالله يجعلنا ممن آثر الحق على هواه ، وأن يجعل ذلك مناه ، فإن هذا هو ما فعله إبراهيم الخليل عليهالسلام في حق أبيه آزر ، عند ما تحقق أنه عدو لله (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) الأواه هو الذي يكثر التأوه لما يشاهده من جلال الله ، وكونه ما في قوته مما ينبغي أن يعامل به ذلك الجلال الإلهي ، والتأوه من نعت المحبين ، فيتأوه غيرة على الله ، وشفقة على المحجوبين ، فيتأسف على من حرمه الله الشهود ، ويتأوه لحبه في محبوبه من أجل ما يراه من عمى الخلق عنه ، فإن من شأن المحبة الشفقة على المحبوب. (حَلِيمٌ) ببنية المبالغة ، وهي فعيل ، والحلم لا يكون إلا مع القدرة على من يحلم عنه ، فالحلم هو الإمهال من القادر على الأخذ ، فيؤخر الأمر ويمهل ولا يهمل ، فإن صاحب العجز عن إنفاذ اقتداره لا يكون حليما ، ولا يكون ذلك حلما ، فلا حليم إلا أن يكون ذا اقتدار ، فإن العجلة بالأخذ عقيب الجريمة دليل على الضجر ، فالحليم هو الذي لا يعجل مع القدرة وارتفاع المانع ، وحلم العبد من العلم الإلهي السابق ولا يشعر به العبد ، حتى تقوم به صفة الحلم ، فحينئذ يعلم ما أعطاه حكم علم الله في حكمه ، ولهذا إن تقدمه العلم بذلك لا يسمى حليما على جهة التشريف ، فالحق يوصف بالحلم لعدم الأخذ ، لا على طريق التشريف ، والعبد ينعت بالحلم لعدم الأخذ أيضا ولكن على طريق التشريف ، لجهله بما في علم الله من ذلك ، قبل اتصافه بعدم المؤاخذة والإمهال من غير إهمال ، فشرف الحق بالعلم لا بالحلم ، وشرف العبد بالحلم لا بالعلم ، لجهله ذلك. فإن علم قبل قيام صفة الحلم به لم يكن الحلم به تشريفا ، ولما كانت المخالفة تقتضي المؤاخذة أفسد الحلم حكمها في بعض المذاهب ، ولذلك يقال : حلم الأديم إذا فسد وتشقق ، وكذلك حلم النوم أفسد المعنى عن صورته ، لأنه ألحقه بالحس وليس بمحسوس ، حتى يراه من لا علم له بأصله ، فيحكم عليه بما رآه من الصورة التي رآها عليها ، ويجيء العارف بذلك فيعبر تلك الصورة إلى المعنى الذي جاءت له ، وظهر بها ، فيردها إلى أصلها ، كما أفسد الحلم العلم ، فأظهره في صورة اللبن ، وليس بلبن ، فرده رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتأويل رؤياه إلى أصله وهو العلم فجرد عنه تلك الصورة.