ابتداء الغرق عذابا ، فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم تتخللها معصية ، فقبضت على أفضل عمل ، وهو التلفظ بالإيمان ، كل ذلك حتى لا يقنط أحد من رحمة الله ، والأعمال بالخواتيم ، فلم يزل الإيمان بالله يجول في باطن فرعون ، وجاء طوعا في إيمانه ، وما عاش بعد ذلك ، فقبض فرعون ولم يؤخر في أجله في حال إيمانه ، لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى ، ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) وقد أظهرت نجاتك آية أي علامة على حصول النجاة ، فغفل أكثر الناس عن هذه الآية وقضوا على المؤمن بالشقاء ، وأما قوله تعالى : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) فما فيه نص أنه يدخلها معهم ، بل قال الله : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) ولم يقل (أدخلوا فرعون وآله) ورحمة الله أوسع من حيث أن لا يقبل إيمان المضطر ، وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغرق ، والله يقول : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) فقرن للمضطر إذا دعاه الإجابة وكشف السوء عنه ، وهذا آمن لله خالصا ، وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفا من العوارض ، أو يحال بينه وبين هذا الإخلاص الذي جاءه في هذه الحال ، فرجح جانب لقاء الله على البقاء بالتلفظ بالإيمان ، وجعل ذلك الغرق (نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الأجاج ، وقبضه على أحسن صفة هذا ما يعطي ظاهر اللفظ ، وهذا معنى قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) يعني في أخذه نكال الآخرة والأولى ، وقدم ذكر الآخرة وأخر الأولى ليعلم أن العذاب ـ أعني عذاب الغرق ـ هو نكال الآخرة ، فلذلك قدمها في الذكر على الأولى ، وهذا هو الفضل العظيم.
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (٩٤)