فأخلق جوهرة الماء ، فخلقتها دون حجاب العزة الأحمى ، وأنا على ما كنت عليه ولا شيء معي في عما ، فخلق الماء سبحانه بردة جامدة كالجوهرة في الاستدارة والبياض ، وأودع فيها بالقوة ذوات الأجسام وذوات الأعراض ، ثم خلق العرش واستوى عليه اسمه الرحمن ، ونصب الكرسي وتدلت إليه القدمان ، فنظر بعين الجلال إلى تلك الجوهرة فذابت حياء وتحلّلت أجزاؤها فسالت ماء ، وكان عرشه على ذلك الماء ، قبل وجود الأرض والسماء ، وليس في الوجود إذ ذاك إلا حقائق المستوى عليه والمستوي والاستواء ، فأرسل النفس فتموج الماء من زعزعه وأزبد ، وصوّت بحمد الحمد المحمود الحق عند ما ضرب بساحل العرش ، فاهتز الساق وقال له : أنا أحمد ، فخجل الماء ورجع القهقرى يريد ثبجه ، وترك زبده بالساحل الذي أنتجه ، فهو مخضة ذلك الماء ، الحاوي على أكثر الأشياء ، فأنشأ سبحانه من ذلك الزبد الأرض ، مستديرة النشء مدحية الطول والعرض ، ثم أنشأ الدخان من نار احتكاك الأرض عند فتقها ، ففتق فيه السموات العلى ، وجعلها محلّ الأنوار ومنازل الملأ الأعلى ، وقابل بنجومها المزينة لها النيرات ، ما زيّن به الأرض من أزهار ونبات (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) لما كان العرش على الماء قبل الحياة بذاته فإن الله تعالى جعل من الماء كل شيء حي ، ولما كان الماء أصل الحياة وكل شيء حي ، قرن بين العرش المجعول على الماء وبين خلقه الموت والحياة في الابتلاء ، فقال : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ) أي يختبركم ، وقال : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ) فالحياة للأعيان ، والموت للنسب ، فظهور الروح للجسم حياة ذلك الجسم ، وغيبة الروح عن الجسم زوال الحياة من ذلك الجسم ، وهو الموت ، والابتلاء فتنة. فإبليس ما له نظر إلا في الأوضاع الإلهية الحقيقية ، فيقيم في الخيال أمثلتها ليقال : هي عينها فيغتر بها من نظر إليها ، وما ثمّ شيء كما فعل بابن صياد حيث وضع إبليس عرشه على الماء ، لما علم أن العرش الرحماني على الماء ، يلبّس بذلك على الناس أنه الله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لابن صياد : [ما ترى؟ قال : أرى عرشا على البحر فقال : ذلك عرش إبليس] فإن الله قد أعطى إبليس السلطنة على خيال الإنسان ، فيخيل إليه ما يشاء ، فإذا وضع عرشه على الماء ، بعث سراياه شرقا وغربا وجنوبا وشمالا إلى قلوب بني آدم ، إلى الكافر ليثبت على كفره وإلى المؤمن ليرجع عن إيمانه ، وأدناهم من إبليس منزلة أعظمهم فتنة ، فنعوذ بالله من الخذلان فقوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)