يُبْخَسُونَ) لا يبخسه من ذلك شيئا ، فقد حبط عمله إن كانت إرادته الحياة الدنيا ، فلا حظّ له في الآخرة التي هي الجنة ، أو النعيم الذي ينتجه العمل لأنه قد استوفاه في الدنيا ، فإن كان العبد ممن يريد الحياة الدنيا ، ونقصه من ذلك نفس واحد ، لم ينعم به فليس هو ممن وفّى الله له فيها عمله ، لأنه ما مكنه من كل ما تعلقت به إرادته في الحياة الدنيا ، وهل يتصور وجود هذا مع قرصة البرغوث والعثرة المؤلمة في الطريق أو لا؟ فالآية تتضمن الأمرين ، وهي في الواحد المحال وقوعه في الوجود أظهر ، فإنه بعيد أن لا يتألم أحد في الدنيا ، فمن أراد الحياة الدنيا فقد أراد المحال ، فلو صحّ أن يقع هذا المراد ، لكان إرادة ما يلايم طبعه ويحصل غرضه ، وهي الإرادة الطبيعية الأصلية ، فإن الله تعالى وصف نفسه بأنه لا يبخس أحدا في مراده ، كان المراد ما كان لكنه ليس بواقع ، وأما الأمر الآخر فإنه إذا تألم مثلا بقرصة البرغوث إلى ما فوق ذلك من أكبر أو أصغر ، فإن كان مؤمنا ، فله عليه ثواب في الآخرة ، فيكون لهذا المريد الحياة الدنيا ، يعطيه الله ذلك الثواب في الدنيا معجلا فينعم به ، وإن لم يكن مؤمنا بالدار الآخرة وفّاه الله ما يطلبه ذلك العمل في الحياة الدنيا ، وأما المؤمن فيعطيه نعيم العمل وصبره الذي ذكرناه على العثرة في محلّ التكليف وقرصة البرغوث ، فما أعطى الله أحدا الحياة الدنيا مخلصة قط ، ولا هو واقع ، ولو وقع له كل مراد ، لكان أسعد الخلق ، فإنه من إرادته النجاة والبشرى من الله تعالى له بها ، وإن لم يكن مؤمنا فما وقع المشروط وقوع عموم الشرط.
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١٧)