وفي مواضع لم يقيد العذاب بالأليم وأطلقه فقال : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) يعني وإن زال الألم فإن السكنى لأهل النار في النار لا يخرجون منها كما قال تعالى (خالِدِينَ فِيها) يعني في النار ، وقال في أهل السعادة (خالِدِينَ فِيها) يعني في الجنة ، ولم يقل فيه فيريد العذاب ، فلو قال عند ذكر العذاب خالدين فيه ، أشكل الأمر ، ولما أعاد الضمير على الدار ، لم يلزم العذاب ، فإن قال قائل : فكذلك لا يلزم النعيم كما لم يلزم العذاب ، قلنا : وكذلك كنا نقول : ولكن لما قال الله تعالى : في نعيم الجنة إنه عطاء غير مجذوذ ، أي عطاء غير مقطوع ، وقال : لا مقطوعة ولا ممنوعة ، لهذا قلنا بالخلود في النعيم والدار ، ولم يرد مثل هذا قط في عذاب النار ، فلهذا لم نقل به وما ورد في العذاب شيء يدل على الخلود فيه ، كما ورد في الخلود في النار ، ولكن العذاب لا بد منه في النار وقد غيب عنا الأجل في ذلك ، وما نحن من جهة النصوص على يقين ، إلا أن الظواهر تعطي الأجل في ذلك ، ولكن كميّته مجهولة ، لم يرد بها نص ، ولا نص يعارض ونبقى نحن مع قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وأي شيء أراد ، فهو ذلك ، ولا يلزم أهل الإيمان أكثر من ذلك ، إلا أن يأتي نص بالتعيين متواتر يفيد العلم ، فحينئذ يقطع المؤمن وإلا فلا ، قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند ما رأى جنازة يهودي فقيل له : إنها جنازة يهودي فقال : أليست نفسا؟ وهذا أرجى ما يتمسك به أهل الله في شرف النفس الناطقة ، وأن صاحبها وإن شقي بدخول النار فهو كمن يشقى هنا بأمراض النفس ، من هلاك ما له وخراب منزله وفقد ما يعز عليه ألما روحانيا لا حسيا ؛ فإن ذلك حظ الروح الحيواني ، وهذا كله غير مؤثر في شرفها فإنها منفوخة من الروح المضاف إلى الله بطريق التشريف ، فالأصل شريف ، ولما كانت من العالم الأشرف ، قام لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعينها ، وهذا إعلام بتساوي النفوس في أصلها ، وهذه من أعظم المسائل تؤذن بشمول الرحمة وعمومها لكل نفس ، وإن عمرت النفوس الدارين ، ولا بد من عمارة الدارين كما ورد ، وأن الله سيعامل النفوس بما يقتضيه شرفها بسر لا يعلمه إلا أهل الله ، فإنه من الأسرار المخصوصة بهم ، فكما أن الحد يجمعهم كذلك المقام يجمعهم لذاتهم إن شاء الله تعالى كما قال في الذين شقوا (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ولم يقل عذابا غير مجذوذ كما قال في السعداء ، فإن رحمة الله سبقت غضبه ، ورحمته تعالى وسعت كل شيء منّة واستحقاقا ، وبالأصل فكل ذلك منة منه سبحانه ، فإنه الذي كتب على نفسه الرحمة للمتقي ، والمتقي بمنته سبحانه اتقاه ، وجعله محلا للعمل الصالح.