قال في عذابهم (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وما يعلم أحد من خلق الله حكم إرادة الله في خلقه إلا بتعريفه ، ألا تراه في حق السعداء يقول؟ (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) والصورة واحدة والمدة واحدة ولم يقل في العذاب ، إنه غير مجذوذ ، لكن يقطع بأنهم غير خارجين من النار ، ولا نعرف حالتهم فيها في حال الاستثناء ما يفعل الله فيهم ، فلا يقضى في ذلك بشيء مع علمنا بأن رحمته سبقت غضبه ، وعلمنا بأن الله يجزي كل نفس بما عملت ، ولكن يستروح من العبارة أنه إذا استوفيت الحدود ، عمت الرحمة من خزانة الجود ، وهو قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وهذا هو الحد الزمني ، لأن التبديل لا بد أن يقع بالسموات والأرض ، فتنتهي المدة عند ذلك ، وهو في حق كل إنسان من وقت تكليفه إلى يوم التبديل ، لأنه غير مخاطب ببقاء السموات والأرض قبل التكليف ، وهذا في حق السعيد والشقي ، فهما في نتائج أعمالهما هذه المدة المعينة ، فإذا انتهت انته نعيم الجزاء الوفاق وعذاب الجزاء ، وانتقل هؤلاء إلى نعيم المنن الإلهية التي لم يربطها الله بالأعمال ولا خصّها بقوم دون قوم ، وهو قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ما له مدة ينتهي بانتهائها ، كما انته الكفر والإيمان هنا بانتهاء عمر المكلف ، وانتهت إقامة الحدود في الأشقياء والنعيم الجزائي في السعداء بانتهاء مدة السموات والأرض ؛ (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في حق الأشقياء (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وكذا وقع الأمر بحسب ما تعلقت به المشيئة الإلهية ، وما قال إن الحال التي هم فيها لا تنقطع ، كما قال في السعداء ، فعلمنا بذكر مدة السماء والأرض وحكم الإرادة في الأشقياء والإعراض عن ذكر العذاب ، أن للشقاء مدة ينتهي إليها حكمه وينقطع عن الأشقياء بانقطاعها والذي منع أن يقول تعالى في الأشقياء عذابا غير مجذوذ قوله (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وقوله [إن رحمتي سبقت غضبي] في هذه النشأة ، وعلمنا أن جزاء السعيد على مثل ذلك ثم تعم المنن والرضى الإلهي على الجميع في أي منزل كانوا ، فإن النعيم ليس سوى ما يقبله المزاج وغرض النفوس لا أثر للأمكنة في ذلك ، فحيثما وجد ملايمة الطبع ونيل الغرض كان ذلك نعيما لصاحبه فإن الوجود رحمة في حق كل موجود وإن تعذّب بعضهم ببعض ، فتخليدهم في حال النعيم غير منقطع وتخليدهم في حال الانتقام موقوف على إرادة ، فقد يعود الانتقام منهم عذابا عليهم لا غير ويزول الانتقام ، ولهذا فسره في مواضع بالألم المؤلم ، وقال : عذاب أليم ، والعذاب الأليم.